التوبة - قصر الفتوى
حسام بن عبدالعزيز الجبرين
الحمد لله الذي هدانا لأقومِ السبل، ونسأله أن يَمُدنا بعزمٍ لا يأخذه فتور ولا ملل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له غفور الزَّلل، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا المؤيد بأجل آية وأسطع برهان، الدَّاعي إلى الدين الحق بأقوم حجَّة وأبلغ بيان، صَلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، أمَّا بعد أيُّها الكرام:
عبادة عظيمة هي من التقوى، نغفل عنها كثيرًا - وللأسف - تقرَّبَ بِها إلى ربِّهم الأنبياء والمرسلون، فضائلها كثيرة، وأجورها وفيرة، عبودية يُحبها الرب - عزَّ وجلَّ - ويكفي من فضلها أنَّه - سبحانه - يفرح بصاحبها.
أخي - رعاك الله -:
تعالَ لنتأملْ هذا الحديث، ولنعش في جو هذا المشهد، الذي أخبرنا به النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول - عليه الصلاة والسلام - فيما أخرج مسلم في صحيحه: ((لَلهُ أشدُّ فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدِكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه،وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة، فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بِخِطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللَّهُمَّ أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح))؛ وأخرجه البخاري بنحوه.
قال ابن القيم: "ولم يَجئ هذا الفرح في شيء من الطاعات سوى التوبة" اهـ، وفرحه - سبحانه - فرح إحسان ولطف وبِر، لا فرح محتاج إلى توبة عبده؛ ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفً ﴾ [النساء: 27 - 28]، أمرك بشكره؛ لتنالَ المزيد من فضله، وأمرك بذكره؛ ليذكرَك بإحسانه، أمرك بسؤاله؛ ليعطيكَ، بل أعطى أجلَّ العطايا بلا سؤال، دعاك إلى بابه وفتَحَهُ، فهل ولجتَه؟ ربنا من أقبل إليه تلقَّاه، ومن أعرض عنه ناداه، يمد الرب - سبحانه - عبده بنِعَمِهِ، فيبارزه بالمعاصي وبما يغضبه، خيره نازل وشرُّهم صاعد.
يحلم عليهم ويدعوهم إلى طاعته والتوبة إليه، حتى ولو كانوا مسرفين في اقتراف المحرمات والذنوب، ولو عشرات السنين، بل إنَّه يفرح بتوبتهم، بل يبدل لهم عند التوبة تلك الجبالَ العظيمة من السيئات والذنوب حسناتٍ؛ ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 68 - 70]، فلا إله إلا الله، ما أكرم الله! ولا إله إلا الله، ما أحلم الله! ولا إله إلا الله، ما أصبر الله! نعم، جاء عن صبر الله في الصَّحيحين مرفوعًا: ((لا أحَدَ أصبر على أذًى يسمعه من الله - عزَّ وجلَّ - إنَّه يشرك به، ويجعل له الولد، ثم هو يعافيهم ويرزقهم)).
أيُّها الصائمون:
في الحديث ((كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون))؛ كما عند البيهقي وابن ماجه وحسنه الألباني، إذًا فحاجتنا جميعًا إلى التوبة ماسَّة، كم من طاعة قصرنا فيها! وكم من محرَّم وقعنا فيه! إنَّنا نَحتاج إلى ما يصقل القلوب، وينقيها من رين المعاصي والذُّنوب؛ أخرج مسلم في صحيحه مرفوعًا: ((تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أُشْرِبَها نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ سوداء، وأي قلب أنكرها نُكِتَ فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين؛ على أبيض مثل الصَّفا،فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مُرْبَادًّا، كالكوز مُجَخِّيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، إلاَّ ما أشرب من هواه))، نعوذ بالله من الضَّلال والخذلان، وها هنا - أيُّها المؤمنون - مسائل حول التوبة، فمن ذلك:
التوبة النَّصوح، وهي الخالصة الصادقة، الخالية من الشوائب والعلل، وهي التي تكون من جميع الذُّنوب بإخلاص لله، وإقلاع عن الذنب، وندم عليه، وعزم على ألاَّ يعود إليه، ويزيد إن كانت معصيته متعلقة بحق آدمي، رد الحق إلى صاحبه.
ومن المسائل: التوبة الخاصة، وهي التي من ذنب مُعيَّن أو ذنوب معينة - وإن كان الواجبُ على العبد أن يتوب من جميع الذنوب - لكن لو تاب من بعضها مع إصراره على بعضها الآخر، قُبلتْ توبته مما تاب منه، فلو تاب شخصٌ من شرب المسكر، أو الدخان، أو من الكذب، أو الغِيبة، وهو مُصِر على حلق لحيته مثلاً، قُبِلَت توبتُه من الشرب أو الكذب، وهكذا فالتوبة تتبعَّض كالمعصية، ثم إن على العبد إذا وُفِّق للتوبة من ذنب أنْ يَسعى للتخلُّص من الباقي، فالحسنة تهتف بأختها، والسيئة كذلك.
ومن المسائل: أن فعل معصية من المعاصي لا يسوغ فعل غيرها، ولا يسوغ ترك الطاعات، ولا المجاهرة بالمعصية ولا الدعوة إليها، ومن المسائل: أنَّ فعل المعصية لا يسوغ للإنسان حب المعصية وأهلها، ولا بغض الطاعة وأهلها.
ومن المسائل: مسألة نقض التوبة، فالإنسانُ إذا تاب من ذنب، ثم عاد إليه مرة أخرى يكون ناقضًا للتوبة، فيلزمه حينئذٍ أن يُجدد التوبة، واحذر من تثبيط الشيطان وتيئيسه، وكرِّر التوبة كلما أذنبت، ومن لطيف مسائل التوبة: أن التوبةَ نوعان: واجبة، ومستحبة، فالتوبة الواجبة تكون من فعل المحرمات وترك الواجبات، والتوبة المستحبة تكون من فعل المكروهات وترك المستحبات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31]، بارك الله لي ولكم...
الحمد لله غافر الذنب، قابل التوب، شديد العقاب ذي الطولِ، لا إلهَ إلا هو إليه المصير، وصَلَّى الله وسلم على البشير النذير، عددَ الخلائق يومَ النفير، أما بعد أيها الفضلاء:
فالتوبة من وظائف الحياة؛ إذ كلُّنا ذوو خطأ، لكن الفرقَ بين العباد أنَّ منهم مَن هو مُسرف في المعاصي، ومنهم من هو مقل منها، ومنهم مَن بين ذلك، ثم هم بعد الوقوع في الخطيئة، منهم سريع الندم والرجوع، ويكثر من الطاعات، ومنهم بطيء عن ذلك أو مُصِر، وعندما يُبْتَلى الواحدُ منَّا بمعصية، فإنَّ من أهم ما يوصَى به التوبة من هذا الذنب، وعمل طاعة لله؛ قال - سبحانه -: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ [هود: 114].
أيها المؤمنون:
يقول ربنا: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31]، أجب عبدَ الله نداءَ مولاك لتفلح، وأكْثِر من التوبة؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ﴾ [البقرة: 222]؛ أي: كثيري التوبة، وانظر فيما يعوقك عن التوبة، فتخلص منه، واسأل الله العونَ والهداية، ففي الصحيح يقول الله في الحديث القدسي: ((كلكم ضال إلاَّ من هديته، فاستهدوني أهدكم)).
إخوة الإيمان:
ومما يجب على المسلم الحذرُ منه القولُ على الله بلا علم، قال الله مخبرًا عن الشيطان وناهيًا عن اتباعه؛ ﴿ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 169] شأن الإفتاء عظيم، وموقعه جسيم؛ إذ هو توقيع عن رب العالمين، ولابن القيم كتاب اسمه: "إعلام الموقعين عن رب العالمين"، وإذا كان هذا شأنَ الفتوى، وهذا مَحلها، فإنَّ من تعظيم الفتوى أن تُحفظ مكانتُها وقداستها، ومن حفظِها ألاَّ تتعدى أهلَ الاختصاص، فلا بد أن تردَّ الفتوى للعلماء؛ يقول ابن سيرين: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمَّن تأخذون دينكم"، وإذا تكلم في الفُتيا والعلم غيرُ أهله، ظهرت الفتاوى الشاذة، وحُلِّل الحرام، ووقع فِئام من الناس في الآثام، وقد استبشر الناسُ بالتوجيه والكلمة التي خاطب فيها خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله وسدده - العلماءَ والمسؤولين في الدولة حول قصر الفتوى على هيئة كبار العلماء، واللجنة الدائمة للإفتاء، ومن يرى مُفتي المملكة كفايتَه وأهليته، ويُستثنى من ذلك الفتاوى الفردية غير المعلنة في أمورِ العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية، على أنْ يمنع منعًا باتًّا التطرق لشواذ الآراء، ومفردات أهل العلم المرجوحة، وأقوالهم المهجورة.
والمقصود من هذا كله حفظُ حِمَى الدين، سيرًا على ما تقتضيه السياسة الشرعِيَّة في اجتماع الكلمة، وتوحيد الصف، ونبذ الفرقة، والاجتماع على أمْرِ الدِّين، ودَرْءِ الفتنة.
هذا، وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمد رسول الله.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك