قتلني خطيب الجمعة!!
سلطان بن عيسى العطوي
خرجتُ يوم الجمعة من بيتي، قاصدًا الصلاة، راغبًا فيما عند الله، متخلِّصًا من أثقال الدنيا، وهاربًا من مشاغلها، نافرًا من مفاتنها، مُيَمِّمًا وجهيَ شطر جامع أراه كأنه جزيرة هادئة، تَعْلوها السَّكينة، والاطمئنان، وحولها هالة من الوقار والأمان، وما حولها من ملاذِّ الدنيا وخطوبها ونوائبها، كأنها بحرٌ لُجِّي متلاطم الأمواج، قد هام وماج بمن فوقه حتى أيقن هلاكه، إلى أن بلَّغه الله ساحل النجاة على هذه الجزيرة الساكنة المطمئنة.
فما أن أضع يميني في رحابه الطاهرة إلاَّ وكأني كُسِيت نورًا متوهِّجًا، بعد ظلام دامس وليل عابس، وما أن أقف بين جموع المُصَلِّين إلاَّ ويسكن قلبي ويذهب روعي، بعد أن بلغ قلبي حناجري؛ مِن رُعْب دنياي.
وهأنذا بين المسلمين المصلِّين، أنظر إليهم وقد انشغل كلٌّ بِحَسَبه؛ فهذا يرجو اغتفار ذنبه، وآخر يسأل صلاح قلبه، وكلُّهم يرجوا رحمة ربِّه.
فجلست آنس بزجل تسبيحهم، وأطرب للذيذ ترتيلهم، وأخشع لرقَّة أنينهم، ولولا أنِّي موقن أنَّ روحي بين جنبيَّ حينها، لظننتُ أنَّنا في جنة الخلد، واللهِ! أيْ: واللهِ كما أقول لكم.
وبعد هذا الانقطاع عن الدُّنيا بالاتِّصال بالآخرة، والارتفاع عن أثقال الأرض ونوازع الهوى بصعود الأرواح إلى الملَكُوت الطَّاهر الأعلى، وبعد السكينة التي فترت لها الأطراف، والطُّمَأنينة التي هدأت بها القلوب والأفئدة.
إذْ تبدَّدَت السكينة، وارتحل الوقار، وتبدَّل أَمْنُنا خوفًا، بخروج الخطيب علينا! أوَ يعقل هذا؟ هو كما أقول والله.
لقد شقينا من حيث طلبنا السَّعادة، وتوحَّشنا من حيث أرَدْنا الأنس، رغم ما كنت أتمَتَّع به من نعيم لا يُماثله نعيم، في جَنَّة الذِّكْر وشآبيب الرَّحمة تغيث القلوب، مع هذا فقد كنت أنتظر الخطيب ليقف على منبره؛ يذكرنا بأمر ربنا، ويحدو بنا نحو نهج نبينا، ويجلي لنا حقيقة دنيانا الزائلة، وأمانيها الزائفة، ويذكِّرنا بحقوق الله علينا، وحقوقنا على أنفسنا وحقوق بعضنا على بعض، يجمع كلمتنا، ويُوَحِّد صفَّنا، يذكِّرنا بإخواننا في كل أرض ما حالهم، وما بالهُم، ويعلِّمنا أن العبودية لله لا لسواه، له تستكنُّ القلوب وتَخْضع الجِباه، وأننا أَعِزَّاء أحرار بتوحيدنا.
نعم هذا ما أكنت أنتظره، وما كنتُ أرجوه؛ فهذا دَوْر المنبر الذي ما كان يعتليه إلاَّ البُلَغاء، بل سادات الفصحاء، فكم امتطى صَهْوتَه الرُّسلُ والأنبياء، وتسابق على اعتلائه العُظَماء والخلفاء؛ إذْ خطَبوا العِزَّة من فوقه، فأسروا القلوب ببيانهم، وعالجوا الأرواح بحديثهم، فكانت خُطَبُهم للمؤمنين كالغيث يَنْزل على القلوب فتنبت الخشوع، والإنابة والخضوع، وكانت للظالمين نارًا تحرقهم، وضجيجًا يوقظ مضاجِعَهم، وزلزالاً تمور منه أراضيهم.
كانوا يخطبون القلوب من القلوب، فيظهر الأثر في عبرات العيون، وتسيل رقَّة عبر الشُّؤون، فيَخرج القلب بعد خُطَبِهم غير القلب، والحال غير الحال، وهكذا منبر الجمعة عند ذوي العقول، يوم كان للإسلام شأن.
أما خطيبنا نحن فقد خطَب خُطْبة فيها كلُّ شيء إلاَّ الخطبة، وما أن نطق إلاَّ وتمنَّيت أن يُعقد لسانُه؛ إذْ إن سكوته خيرٌ من بيانه، أو على الأقل يصمُّ سمعي دونه، إني وضعْتُ رأسي بين رجلي، وتمنيت لو أن الأرض تبتلِعُني؛ على أن يعذِّبني هذا الخطيب بما يصبُّه في أذني من آنك خطبته، بِرَديء عباراته، وركيك ألفاظه، و(مكسَّر) كلماته، بل أحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلَّم - ما سَلِمَت منه، كما لم يَسْلَم الناس منه، وتمنَّيت أني ما قرأتُ حرفًا في حياتي، ولا تعلَّمت علمًا، ولا سمعت خطيبًا مصقعًا، ولا نظرت في أدب ولا فقه ولا غيره، (فوا رحمتاه لكلِّ طالب علم وكلِّ مُثَقَّف حضر - بل احتُضِر - عنده)! فو الله الذي لا إله غيره، لقد جَرَّعَنا السُّمَّ بخطبته، وأذاقنا المرَّ برطانته، ويا ليته نزل إليَّ وذبحني بيده؛ لأذوق الموت مرَّة وأرتاح، على أن يَنْزل بي هذا العذاب جرعة جَرْعة، ويسقيني الموت مرَّات ومرات، لقد كنت أردِّد في نفسي طوال خطبته مما نزل بي - والله يغفر لي - ﴿ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ﴾ [الدخان: 12].
وأعجب من هذا كلِّه أنه مضى في خطبته واثقًا من نفسه، وعلى ما سلب الله منه حُسن الصوت وحُسن الأداء، فقد كان يرفع صوته عاليًا (زاعمًا أن النبيَّ كان يفعله)[1]، وشتَّان بينه وبين الذي إذا خطب رفع صوته، وإذا نطق كأنَّ حبَّات الجمان تتحدَّر من فيه، فتتلقَّفها الأسماع، وتتسابق نحوها القلوب، أما صاحِبُنا فإنه عند رَفْعِه صوتَه أشبه ما يكون بصيحة الفزَع ونفخة الصَّعق؛ التي صعَقَتْ آذاننا وقلوبنا، فسبحان الله! وتذكَّرت إذْ هالَني ثقته بنفسه مع جهله "إنما يتجرَّأ على الخُطْبة الغِرُّ الجاهل الماضي الذي لا يُثْنيه شيءْ"[2].
وهكذا أيها القارئ الكريم، كثير مِثْلي هذه حاله، وهذه مأساته تتكرَّر كُلَّ جمعة؛ إذِ ارتقى المنابِرَ كثيرٌ من الجهلاء، وأُوكِلَ أمرها إلى العوامِّ والغوغاء، ولَهِيَ أعظم مكانة من التعليم والتدريس وغيرها، وكَمْ خطبة من مئات السنين ما زلنا نُرَدِّدها، وتتناقلها الأجيال جيلاً بعد جيل، وخُطَب اليوم - إلاَّ ما رحم رَبِّي - تُلقى ميتة بين الناس بموت مُلْقِيها، فالخطابة شأن عظيم، لكن زُهِد بها، وأميت دورها، وأهينت مكانتها، وذهبت هيبتها، إذْ أُوسِدَت إلى من لا شأن له في علم ولا فقه ولا أدب. ولهيَ والله من أعظم سبُلِ الإصلاح، وأكرم وسائل الإرشاد والتوجيه، فكيف تُهْمَل بربِّكم، وتُوسَد إلى عوام لا يدرون حقائق الأمور، ولا يدرون أنهم لا يَدْرون!
وإن ما نراه من أحوال الناس اليوم، وما اعتراهم مِن تقصير في جوانب من دينهم، لَيَتحمَّل تَبِعتَه أولئك الخطباءُ وأئمَّةُ المساجد الذين لم يتأهَّلوا للقيام بهذه المهمة العظمى، فتفرضهم الإدارات المختصَّة على الناس فرضًا؛ ليصمُّوا أسماعهم بِخُطَب لا تزيد إلاَّ أن تؤذي أسماع الناس، ولا تَلِجُ إلى قلوبهم.
فأقول لأولئك الخطباء وللإدارات التي تقوم بتعيينهم:
إنَّكم والله مسؤولون أمام الله تعالى عن الأُلوف التي تجلس بين يديكم من الناس يطلبون أن يتفقَّهوا في أحكام دينهم، ويتذكروا وَعْد ربِّهم، أم تظنون أن الله تعالى غافلٌ عمَّا تعملون؟
وأنت يا أخي الخطيب:
إن لم تكن متأهِّلاً لهذا العمل، فإمَّا أن تسعى لتطوير نفسك، أو تترك الأمر لمن هو أولى منك وأَجْدر.
[1] ثبت عنه - عليه الصَّلاة والسلام - أنه إذا خطب ارتفع صوته واحْمَرَّ وجهه، كأنه مُنذِرُ جيش.
[2] "البيان والتبيين"، للجاحظ.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك