الوكالة وبعض أحكامها
الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك
المرتع المشبع في مواضع من الروض المربع
قوله: (تصح بكل قول يدل على الإذن...) إلى قوله: (وليس للوكيل أن يوكِّل فيما وكَّل فيه إذا كان يتولاه مثله ولم يعجزه إلا أن يجعل إليه)[1].
قال في ((المقنع)): ((وعنه[2]: يجوز وكذلك الوصي والحاكم))[3].
وقال في ((الإفصاح)): ((واتفقوا على أن الوكالة من العقود الجائزة في الجملة[4]، وأن كل ما جازت فيه النيابة من الحقوق جازت فيه الوكالة كالبيع والشراء والإجارة واقتضاء الديون والخصومة في المطالبة بالحقوق والتزويج والطلاق وغير ذلك))[5].
وقال في ((الاختيارات)): ((قال في ((المحرَّر)): وإذا اشترى الوكيل أو المضارب بأكثر من ثمن المثل أو باع بدونه صح، ولزمه النقص والزيادة ونص عليه.
قال أبو العباس: وكذلك الشريك والوصي والناظر على الوقف وبيت المال ونحو ذلك، وقال: هذا ظاهر فيما إذا فرَّط، وأما إذا احتاط في البيع والشراء ثم ظهر غَبْنٌ أو عيبٌ لم يُقَصِّر فيه فهذا معذور يشبه خطأ الإمام أو الحاكم، ويشبه تصرفه قبل علمه بالعزل، وأبين من هذا الناظر والوصي والإمام والقاضي إذا باع أو أَجَّر أو زارع أو ضارب، ثم تبين [أنه بدون القيمة بعد الاجتهاد أو تصرف تصرفًا ثم تبين] الخطأ فيه مثل أن يأمر بعمارةٍ أو غرسٍ ونحو ذلك، ثم تبين أن المصلحة كانت في خلافه.
وهذا بابٌ واسع، وكذلك المُضارب والشريك، فإن عامة من يتصرف لغيره بوكالة أو ولايةٍ قد يجتهد ثم يظهر فوات المصلحة أو حصول المفسدة، ولا لزوم عليه فيهما، وتضمين مثل هذا فيه نظر، وهو يشبه بما إذا قتل في دار الحرب من يظنه حربيًا فبان مسلمًا، فإن جماع هذا: أنه مجتهد مأمور بعمل اجتهد فيه، وكيف يجتمع عليه الأمر والضمان؟ هذا الضرب هو خطأ في الاعتقاد والقصد لا في العمل، وأصول المذهب تشهد له))[6].
وقال في ((الدرر البهية)): ((كتاب الوكالة، يجوز لجائز التصرف أن يوكل غيره في كل شيء ما لم يمنع منه مانع، وإذا باع الوكيل بزيادة على ما رسمه موكله كانت الزيادة للموكل، وإذا خالفه إلى ما هو أنفع أو إلى غيره ورضي به صَحَّ))[7].
وقال الشيخ ابن سعدي:
((سؤال: ما الفرق بين الأشياء التي تصح فيها الوكالة والتي لا تصح؟
الجواب: من سَعةِ الشرع أن أباح للإنسان أن يفعل الأشياء بنفسه، أو يقيم مقامه من يتولى ذلك العمل، وهذا مطرد في حقوق الله وحقوق عباده إلا ما لا يحصل المقصود إلا بمباشرة الإنسان له وتوليه بنفسه، فإن هذا النوع لا تفيد فيه الوكالة، وذلك كالصلاة والصيام والطهارة من الحدث والحلف ونحوها، وكذلك في أداء حقوق الزوجات المتعلقة ببدنه، كالقسم ونحوه، فهذا هو الفرق))[8].
وقال البخاري: ((باب: إذا أبصر الرَّاعي أو الوكيل شاة تموت أو شيئًا يفسد، ذبح وأصلح ما يخاف عليه الفساد.
وذكر حديث عبيدالله، عن نافع: أنه سمع ابن كعب بن مالِك يُحَدِّث، عن أبيه أنه كانت له غنم ترعى بِسَلْع، فأبصرت جارية لنا بشاة من غنمنا موتًا، فكسرت حجرًا فذبحتها به، فقال لهم: لا تأكلوا حتَّى أسأل النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أو أرسل إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مَن يسأله، وأنَّه سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن ذاك، أو أرسل، فأمره بأكلها، قال عبيدالله: فيُعجبني أنها أَمَة، وأنها ذبحت[9])).
قال الحافظ: ((واستُدل به على تصديق المؤتمن على ما اؤتمن عليه ما لم يظهر دليل الخيانة))[10].
وقال البخاري أيضًا: ((باب: إذا وكَّل رجل رجلاً أن يُعطِيَ شيئًا ولم يُبَيِّن كم يُعطِي، فأعطى على ما يتعارفه النَّاس.
وذكر حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما[11])).
قال الحافظ: ((قوله: (باب: إذا وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلاً أن يعطي شيئًا ولم يُبَيِّن كم يعطي، فأعطى على ما يتعارفه النَّاس)، أي: فهو جائز، فيه حديث جابر في قصة بيعه الجمل، وشاهد الترجمة منه قوله فيه: (يا بلال، اقضه وزده)، فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطًا، فإنه لم يذكر قدر ما يعطيه عند أمره بإعطاء الزيادة، فاعتمد بلال على العُرف في ذلك فزاده قيراطًا))[12].
وقال البخاري أيضًا: ((باب: وَكَالَة الشَّاهِد والغائب جائزة.
وكتب عبدالله بن عمرو إلى قَهْرَمَانِهِ وهو غائب عنه أن يُزَكِّي عن أهله الصّغير والكبير، وساق حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان لرجل على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم سِنٌّ من الإبل فجاءه يتقاضاه، فقال: (أعطوه...) الحديث[13])).
قال الحافظ: ((قال ابن بطَّال[14]: أخذ الجمهور بجواز توكيل الحاضر بالبلد بغير عذر[15]، ومنعه أبو حنيفة[16] إلا بعذر مرض أو سفر أو برضا الخصم، واستثنى مالك[17] من بينه وبين الخصم عداوة.
وقد بالغ الطحاوي في نصرة قول الجمهور، واعتمد في الجواز حديث الباب قال: وقد اتفقت الصحابة على جواز توكيل الحاضر بغير شرط، قال: ووكالة الغائب مفتقرة إلى قبول الوكيل الوَكَالة باتفاق، وإذا كانت مفتقرة إلى قبول فحكم الغائب والحاضر سواء.
قال الحافظ: وموضع الترجمة من الحديث لوكالة الحاضر واضح، وأما الغائب فيستفاد منه بطريق الأولى؛ لأن الحاضر إذا جاز له التوكيل مع اقتداره على المباشرة بنفسه فجوازه للغائب عنه أولى لاحتياجه إليه))[18].
وقال الشيخ ابن سعدي:
((سؤال: ما هي الصور التي يباح للإنسان فيها الأكل والتصرف بمال الغير بدون إذنه؟
الجواب: اعلم أن الأصل احترام أموال الناس فلا يحل لأحد مال غيره إلا بطيب نفسه، وطيب النفس نوعان:
إذن لفظي، وهذا ظاهر وليس هو المسؤول عنه.
ونوع عُرفي، وهو الذي وقع السؤال عليه، فمتى دل الدليل العُرفي على رضا الإنسان في الأكل من ماله، أو التصرف فيه جاز ذلك، وقد دل على هذا الأصل قوله تعالى: ﴿ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ ﴾... إلى آخر الآية [النور: 61]، فهذا الأكل من دون إذن صريح؛ لأن هؤلاء المذكورين قد جرى العُرف والعادة برضاهم؛ ولذلك قال الأصحاب: ولزوجةٍ وكل متصرف في بيتٍ أن يتصدَّق منه بما لا يضر كرغيفٍ ونحوه، ومن هذا التقاط ما سقط من الحصاد للزرع، وما سقط من النخيل حيث جرت به العادة.
ومن هذا الباب: الأكل من الأشجار التي لا حافظ عليها ولا حائط من غير صعود شجرة ولا رميها بحجر، ومن الزرع الذي يمر به وشُرب لبن الماشية، كل هذا مقيد بالعُرف، فحيث جرى العُرف بعدم المسامحة في شيء من ذلك منع لعدم وجود السبب المبيح.
ومن هذا: ذوق الطعام عند الشراء تجربة له، أو الأكل منه إذا جرت العادة بالمسامحة كمن يكتال تمرًا فيأكل منه قبل أن يدخل ملكه فقد جرت عادة الناس في المسامحة به))[19].
[1] الروض المربع ص290- 292.
[2] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 13/ 455.
[3] المقنع 2/ 150.
[4] فتح القدير 6/ 100، وحاشية ابن عابدين 5/ 539، والشرح الصغير 2/ 181، وحاشية الدسوقي 3/ 377، وتحفة المحتاج 5/ 294، ونهاية المحتاج 5/ 15، وشرح منتهى الإرادات 3/ 501، وكشاف القناع 8/ 412.
[5] الإفصاح 2/ 230- 231.
[6] الاختيارات الفقهية ص140- 141.
[7] الدراري المضية شرح الدرر البهية 2/ 356.
[8] الإرشاد ص511.
[9] البخاري 2304.
[10] فتح الباري 4/ 482.
[11] البخاري 2309.
[12] فتح الباري 4/ 485.
[13] البخاري 2305.
[14] شرح صحيح البخاري 6/ 439.
[15] الشرح الصغير 2/ 183، وحاشية الدسوقي 3/ 378، وتحفة المحتاج 5/ 307، ونهاية المحتاج 5/ 25، وكشاف القناع 8/ 416، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف 13/ 447.
[16] فتح القدير 6/ 106، وحاشية ابن عابدين 5/ 542.
[17] الشرح الصغير 2/ 183، وحاشية الدسوقي 3/ 378.
[18] فتح الباري 4/ 483.
[19] الإرشاد ص510- 511.
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك