08-06-2014, 09:40 PM
|
مشرف
|
|
تاريخ التسجيل: Jun 2013
المشاركات: 7,826
|
|
هل يتعارض حد الردة مع قوله تعالى ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾؟
هل يتعارض حد الردة مع قوله تعالى
﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾؟
عبدالرؤوف محمد أبو شقرة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فلا زالت عواصف الشبهات تتجدد في ضرب عقائد المسلمين بالتشكيك، وتقريع ثبوتها ويقينها، وقد وقفت على سؤال لأخ اعتراه شيء من هذا التشويش؛ إذ اختلط عليه قول الفقهاء بوجوب حد الرِّدَّة ولزومه، في الوقت الذي نقرأ في كتاب الله قوله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [البقرة: 256]، وقوله تعالى: ﴿ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 99]، وغيرها من الآيات التي تحرم علينا الإكراه، وكان مما قاله أنْ لو كان حد الرِّدَّة من الشريعة لذكَره الله في القرآن وبيَّنه، بينما لا نجد له ذكرًا أو إشارة.
هذه الشبهة - للأسف - قد كثرت أبواقها، وزاد ناقلوها، في زمان عم الجهل فيه وطم، وإن بين يدي هذا السؤال خلطًا وتشويشًا، وبناء حُكم على أصول خفية مائلة؛ لذا نسلط الضوء عليها تقديمًا وتمهيدًا قبل الولوج في التبيان، حتى يصل الجواب واضح البيان، ثابت الأركان، لا يعتريه شك ولا ريب.
أقول وعلى الله التكلان، وأرجو الانتباه جيدًا لهذه الأصول، ففيها إن شاء الله منجاة:
1- إن الاستدلال باستقلالية من القرآن والسنَّة هو من عمل العالم المجتهد المطلق المستقل، وليس لمن لم تغبَرَّ قدماه في ميادين العلم أن يضع كلام علماء الأمة لقرون جانبًا ويذهب أخذًا واستدلالاً واستنطاقًا للآيات، واستخراجًا للأحكام، إذًا يضل ويهوى.
والسبب في ذلك، أن كتابَ الله فيه محكَم ومتشابه، وفيه ناسخ ومنسوخ، وفيه مجمَل ومبيَّن، وعام وخاص، ومبهَم ومفسَّر، وفيه ما لا تُدرك مراميه ولا معانيه إلا بجمع الأدلة وسبرها والنظر فيها، ثم فهمها بحسب اللسان العربي القرشي؛ إذ به نزل، وبقيوده يُفهم، وبحسب أصول الشريعة وقواعدها المحكمة.
ولا يخفى عليكم - دام فضلكم - أن هذا العمل يحتاج وقتًا من الكد والتعب ونبش الكتب، وتركيع الركب، والتزاحم على العلم، والتسابق للنهم، مع ما يعطي الله المرء من تقوى وصفاء قريحة، وحسن استدلال، وفهم ووعي.
2- إن الآيات تنقل للناس والأقوال، منها ما هو محكَم لم يختلف فيه الصحابة الراشدون ولا علماء الأمة على مر القرون، ومنها ما متشابه بالنسبة لمن لم يضرب باعًا في العلم، فقد تختلط الأفهام وتتضارب.
أما المحكَم المجمع عليه في هذه المسألة، فهو وجوب حد الرِّدَّة على من بدَّل دينه، ولزوم الجزية على أهل الكتاب ومن أخذ بسنَّتهم، لم يختلف في هذا الحكم أبو بكر الصديق ولا عمر بن الخطاب ولا عثمان ولا علي رضوان الله عليهم أجمعين، ولم يختلف في ذلك غيرهم من الصحابة، ولا التابعين، ولا مذاهب الفقه الأربعة، ولا العلماء المبرزين الثقات العدول، كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن حزم - رحمهم الله - وغيرهم كثير، ولم ينشأ هذا الخلاف إلا في المعاصرين المتأثرين بشبهات وهيمنة الغرب، وهو خلاف متأخِّر لا يؤبَه به.
وأما المتشابه المختلط على العامة من الناس فهو معنى الإكراه في الآية، المنفي خبرًا، المنهي عنه إنشاءً، وما يساق من آيات وأدلة في حرمة الإكراه، فهو أدلة عامة أو منسوخة أو مجملة تحتاج لتبيين.
وقد قرر أهل العلم أن المتشابه يُرَد إلى المحكَم لا العكس؛ قال الحق سبحانه: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 7]، فمن صفات أهل الزيغ: عدولُهم عن المحكَمات، وخوضهم في المتشابهات؛ تغليبًا لها على المحكَم الثابت القطعي اليقيني الذي اجتمعت عليه الأمَّة.
3- لذا لا نشك في وجوب حد الرِّدَّة وكذا الجزية، ونشك بكل فهم لآية أو حديث يخالف هذا الحكم؛ لأنه ما كان لهذه الأمة أن تجتمع قرونًا على ضلالة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة))، وقال الحق سبحانه: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، ومن تمام حفظِ الكتاب: حفظُ معانيه ومقاصده.
4- وأما زعمُ أن مثل هذه الحدود يجب ذكرها في القرآن، فزعم باطلٌ، غير صحيح ألبتة، فلا يلزم أن تجد لكل مسألة فقهية دليلاً من القرآن، بل أكثر تفاصيل الفقه الإسلامي لا أدلة عليه مباشرة من القرآن، بل تؤخذ من السنَّة، أو من أصولهما وما يقاس عليهما، والقرآن أساسًا يبني عقيدة وتوحيدًا وثباتًا واستئناسًا وتقوى في قلوب المؤمنين؛ فأغلبه في الأمور العقدية من هذا الدِّين، والفقه أكثر تفصيلاً للأمور العملية.
فحدُّ شارب الخمر مثلاً لم يرِدْ فيه حكمٌ في القرآن رغم الإجماع عليه.
فلا غنى لأحد عن السنَّة بالقرآن؛ قال الحق سبحانه: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ [النحل: 44]، ولما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أقوامًا يستدلون بالقرآن معرِضين عن السنَّة، قال عليه الصلاة والسلام: ((ألا إني أوتيت القرآن ومثلَه معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلُّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرِّموه))، فمعنى الحديث أن قد أوحي للنبي صلى الله عليه وسلم وحيانِ؛ القرآن والسنَّة.
5- لا يصح بناء الأحكام على آيات مفردة، من غير جمعها مع آيات وأحاديث وأصول أخرَ في الباب، فلا تؤخذ مجتزأة، بل مع تطبيقات الصحابة والتابعين؛ فهم الذين قاربوا التنزيل، وعرفوا فيمن نزل؟ ولِم نزل؟ وعمن يتحدث؟ وكيف تطبق آياته؟
وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من بدَّل دِينه فاقتلوه))، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وصلَّوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا، فقد حرُمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها))، وقال صلوات الله وسلامه عليه: ((بُعِثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يُعبَد اللهُ وحده لا شريك له، وجُعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلُّ والصَّغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم)).
وقال الحق سبحانه: ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [التوبة: 29].
فلا تعارض بين أدلة حد الرِّدَّة وأدلة حرمة الإكراه، ولكن أدلة الرِّدَّة محكَمةٌ واضحة المعنى، وأدلة حرمة الإكراه منسوخة أو مخصصة، أو يُسلَك بها سبيل التأويل؛ لتعارضها ظاهرًا مع المحكَم، وهذا ما فعله المفسِّرون والفقهاء.
فمنهم من قال: إن قوله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [البقرة: 256] منسوخٌ بآية السيف.
ومنهم من قال: هي مخصوصة في أهل الكتاب؛ إذ يخيَّرون بالجزية.
ومنهم من قال: إن الإكراه المنفيَّ هو الإكراهُ المذموم، وليس الإكراه المحمود.
ومنهم من قال: إن المنفيَّ في الآية هو الإكراه على الابتداء، وحد الرِّدَّة إكراهٌ على البقاء، أقصد من كان كتابيًّا لا يكره على الإسلام ابتداءً، فإن أسلم فيجب إكراهُه على البقاء على الإسلام، حتى لا يتلاعب في الدِّين كما فعلت يهودُ؛ ﴿ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [آل عمران: 72]، فهذه وسيلة لدبِّ الريبة في قلوب البسطاء من المسلمين.
فأيًّا ما كان الجواب، وسواءٌ أسمعت تأويلات وتحليلات وتقليبات وفذلكات وبهرجات من الكلم لتشوش على حدود الله أم لا.. المهم أن حد الرِّدَّة محكَمٌ لا سبيل للطعن فيه، وقد فعله الخلفاءُ الراشدون وغيرهم من الصحابة، وعليه الأمر قرنًا من بعد قرن، فلن نكون أعلمَ ولا أوعى ولا أثقب أفهامًا منهم، كلا حاشاهم، فلنلتزم سنَّةَ النبي صلى الله عليه وسلم وسنَّة صحابته.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|