تفسير: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان)
محمد حسن نور الدين إسماعيل
قال الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ [1] وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 23، 24].
سورة التوبة مدنية، وآياتها مائة وتسع وعشرون آية، وبها ستُّ نداءات للمؤمنين.
أجمع القرَّاء العشَرة على حذف البسملة في أولها، ويجوز لكلٍّ من العشرة بين الأنفال وبراءة ثلاثةُ أوجه: القطع، والسَّكت، والوصل، وهذا إذا وصلها بالأنفال، أما إذا فصلها عنها وابتدأ القراءة بها، فلا يجوز إلاَّ التعوُّذ حينئذ، سواءٌ أوقف عليها أم وصلها بأول السورة[2].
﴿ اقْتَرَفْتُمُوهَا ﴾ أصل القَرْف والاقتراف: قَشر اللِّحاء عن الشجر، والجلدة عن الجُرح، وما يُؤخذ منه قِرْف، واستُعير الاقتراف للاكتساب؛ حُسنًا كان أو سوءًا، قال تعالى: ﴿ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ﴾ [الأنعام: 120]، ﴿ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ﴾ [الأنعام: 113]، ﴿ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا ﴾ [التوبة: 24]، والاقتراف في الإساءة أكثر استعمالاً؛ لذا يقال: الاعترافُ يزيل الاقترافَ، وقارف فلانٌ أمرًا؛ إذا تعاطى ما يعاب به[3].
﴿ فَتَرَبَّصُوا ﴾ التربُّص: الانتظار بالشيء، سلعةً كانت يَقصد بها غلاءً أو رِخَصًا، أو أمرًا ينتظرُ زوالَه أو حصوله، يقال: تربَّصت لكذا، ولي رُبصةٌ بكذا، وتربُّصٌ، قال تعالى: ﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ ﴾ [البقرة: 228]، ﴿ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ﴾ [الطور: 31]، ﴿ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ ﴾ [التوبة: 52][4].
﴿ أَوْلِيَاءَ ﴾: جمع وليٍّ، وهو من تتولاه بالمحبة والنُّصرة، ويتولاك بمثل ذلك، (الظلم): وضعُ الشيءِ في غير موضعِه، ومن أحبَّ من لا تجوز محبتُه فقد وضع شيئًا في غير موضعه فهو ظالم.
﴿ عَشِيرَتُكُمْ ﴾؛ أي: قَرابتكم من النسَب؛ كالأعمام الأباعد وأبنائهم، ﴿ كَسَادَهَا ﴾ بَوارَها وعدم رَواجِها.
﴿ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾؛ أي: بعقوبة هذه المعصية يوم فتح مكة[5].
معنى الآيتين الكريمتين:
هذا إنذارُ الله تعالى للمؤمنين، ينهاهم فيه عن اتِّخاذ مَن كفَر من آبائهم وإخوانهم أولياءَ لهم يُوادُّونهم ويناصرونهم، ويُطلِعونهم على أسرار المسلمين، وبَواطنِ أمورهم، فيقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾؛ أي: بالله ورسوله، ولقاءِ الله ووعده ووعيده، ﴿ لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ [6] وَإِخْوَانَكُمْ [7] أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا [8] الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ ﴾؛ أي: آثَروا الكفرَ والإصرارَ عليه على الإيمان بالله ورسوله، ويهدِّدهم إن لم يمتثلوا أمرَه، ويُفاصلوا آباءَهم وإخوانهم المستحبين للكفر على الإيمان؛ فيقول: ﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾[9]، ووجهُ الظلم ظاهرٌ؛ وهو أنهم وضعوا المحبةَ موضعَ البغضاء، والنُّصرة موضع الخِذلان؛ لأن الظلم وضعُ الشيء في غير موضعه.
ثم أمر تعالى رسولَه أن يقول لهم، وفي هذا العدول عن خطابهم مباشرة إلى الواسطة ما يشعرُ بالغضب وعدم الرضى، والتهديد والوعيد: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ ﴾ فتركتم الجهاد لذلك - ﴿ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾؛ أي: انتظروا أمرَ الله، وهو فتحُ مكةَ عليكم، وإنزال العقوبة بكم، ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾؛ أي: لا يوفقهم لسُبل نجاتهم وسعادتهم[10].
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
أمر تعالى بمباينة الكفار به، وإن كانوا آباء أو أبناء، ونَهى عن موالاتهم ﴿ إِنِ اسْتَحَبُّوا ﴾؛ أي: اختاروا الكفرَ على الإيمان، وتوعَّد على ذلك؛ كقوله تعالى: ﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ [المجادلة: 22] الآيةَ...
ثم أمر تعالى رسولَه أن يتوعَّد من آثرَ أهلَه وعشيرته على الله ورسوله وجهاد في سبيله تعالى، فقال: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا ﴾؛ أي: تحبونها؛ لطيبِها وحسنها؛ أي: إن كانت هذه الأشياء ﴿ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا ﴾؛ أي: فانتظروا ماذا يحلُّ بكم من عقابه ونَكاله بكم، ولهذا قال: ﴿ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾﴿ ﴾، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناسِ أجمعين))، وروى الإمامُ أحمد وأبو داود - واللفظ له - من حديث أبي عبدالرحمن الخراساني، عن عطاء، عن نافع، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله يقول: ((إذا تبايعتم بالعِينَة[11]، وأخذتم أذنابَ البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهادَ، سلَّط اللهُ عليكم ذلاًّ، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم[12]))[13].
ما يستفاد من الآيتين الكريمتين:
1- حرمة اتخاذ الكافرين أولياء يوادون، ولو كانوا من أقرب الأقرباء؛ كالأبِ والابن، والأخ والعم.
2- من الظلم الفظيع موالاةُ من عادى اللهَ ورسولَه والمؤمنين.
3- فرضية محبةِ الله ورسوله والجهاد في سبيله، ومحبة سائر محابِّ الله تعالى، وكُره سائر مكاره الله تعالى؛ من العقائد والأقوال والأعمال، والذوات والصفات.
4- حرمان أهل الفسق المتوغلين فيه من هداية الله تعالى إلى ما يكملهم ويسعدهم[14].
5- أن هذا الحكم عامٌّ في أمة الإسلام إلى يوم القيامة، ولا التفات لسبب نزولها؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
[1] (عَشِيرَتكم) قرأ شعبة بألف بعد الراء على الجمع، والباقون بغير ألف على الإفراد، وقيه ترقيق الراء لورش.
[2] البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة؛ عبدالفتاح القاضي ص 131.
[3] المفردات في غريب القرآن؛ الراغب الأصفهاني ص 402.
[4] المفردات في غريب القرآن؛ الراغب الأصفهاني ص 192.
[5] أيسر التفاسير؛ الجزائري ج 1 ص542.
[6] هذه الآية ما تضمَّنَته من حكم حرمة موالاة الكافرين ولو كانوا من أقرب الأقرباء، وهو عام في الأمة إلى يوم القيامة، وإن فهم منها بعضهم أنها للمؤمنين الذين كانوا بمكة وغيرها، يَدعوهم إلى الهجرة والتخلي عن بلاد الكفر.
[7] لم يذكر الأبناء؛ لأن العادة أن الأبناء تبع لآبائهم، وذكرُ الآباء والإخوان ذكرٌ لأقوى القرابة.
[8] استحبوا بمعنى: أحبوا، نحو: استجاب بمعنى: أجاب.
[9] قال ابن عباس: من تولاهم هو مشرك مثلُهم؛ لأن الرضا بالشرك شِرك، ويستثنى من هذه المقاطعةِ الإحسانُ والهبة للأقارب الكفَرة؛ لحديث أسماء إذ قالت: يا رسول الله، إن أمي قدِمَت عليَّ راغبة وهي مشركة، أفأصِلُها؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((صِلى أمَّك))؛ رواه البخاري رحمه الله تعالى.
[10] أيسر التفاسير؛ الجزائري ج1 ص 543.
[11] العينة: نوع من أنواع الربا.
[12] رواه أحمد وأبو داود رحمهما الله تعالى، ص. ج رقم (423).
[13] تفسير ابن كثير رحمه الله تعالى ج1 ص 1046.
[14] أيسر التفاسير؛ الجزائري ج1 ص543.
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك