شرح حديث: النذر لا يقدم شيئا ولا يؤخره، وإنما يستخرج به من البخيل
انشراح محمد باحشوان
المقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبي الله محمد وآله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن النذور قد عرفت منذ العصر الجاهلي، فيفرض الشخص على نفسه أمرًا ما عند طلب منفعة أو دفع ضرر، "ففي قصة حفر بئر زمزم حينما نذر عبدالمطلب لئن آتاه الله عشرًا من الولد وبلغوا أن يمنعوه لينحرن أحدهم عند الكعبة، فلما تم له ذلك أخبرهم بنذره، فأطاعوه، فأقرع بينهم، فطارت القرعة إلى عبدالله - أحب أبنائه إليه - فدارت قصة طويلة إلى أن فدَوْه بمائة من الإبل[1]، فمن سمات العرب في الجاهلية: الوفاء بالنذر، ولولا أنهم يوفون بنذورهم لما فدوا عبدالله بمائة من الإبل.
فالنذر في أصل اللغة: من مادة "ن، ذ، ر"، والنذر: واحد النذور، وقد نذر لله كذا من باب ضرب ونصر، ويقال: نذر على نفسه نذرًا، ونذر ماله نذرًا[2].
والنذر لغة: الإيجاب[3]، قال أبو سعيد: إنما يقال لها نذر لا نذير وفيه أي أوجب من قولك: نذرت على نفسي؛ أي: أوجبت على نفسي؛ فالنذر ما كان وعدًا على شرط، فكل ناذر واعد، وليس كل واعد ناذرًا[4].
والنذر شرعًا: إلزام المكلف نفسه عبادة لم تكن لازمة بأصل الشرع[5].
والنذر في اصطلاح الفقهاء: إلزام مكلف مختار نفسه لله تعالى بالقول شيئًا غير لازم بأصل الشرع[6].
والأصل في النذور: الكتاب، السنة، الإجماع.
فمن الكتاب: فقوله تعالى في امتداح المؤمنين ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ﴾ [الإنسان: 7]، وقد أمر الشارع بالوفاء بالنذر في قوله تعالى: ﴿ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ﴾ [الحج: 29]، وقوله: ﴿ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ﴾ [البقرة: 270].
ومن السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم: ((من نذر أن يطيع الله، فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه))[7]، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: ((خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) - قال عمران: لا أدري ذكر اثنين أو ثلاثة بعد قرنه - ((ثم يجيء قوم ينذرون ولا يوفون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويظهر فيهم السمن))[8].
وأما المعقول: فهو أن المسلم يحتاج إلى أن يتقرب إلى الله - سبحانه وتعالى - بنوع من القُرب المقصودة، التي له رخصة تركها، لما يتعلق به من المعاقبة الحميدة، وهي نيل الدرجات العلى، والسعادة العظمى في دار الكرامة، وطبعه لا يطاوعه على تحصيله، بل يمنعه عنه؛ لما فيه من المضرة الحاضرة، وهي المشقة، ولا ضرورة في الترك، فيحتاج إلى اكتساب سبب يخرجه عن رخصة الترك، ويلحقه بالفرائض الموظفة، وذلك يحصل بالنذر؛ لأن الوجوب يحمله على التحصيل؛ خوفًا من مضرة الترك، فيحصل مقصوده، فثبت أن حكم النذر الذي فيه تسمية هو وجوب الوفاء بما سمى، وسواء كان النذر مطلقًا أو مقيدًا معلقًا بشرط بأن قال: إن فعلت كذا فعليَّ لله حج أو عمرة أو صوم أو صلاة أو ما أشبه ذلك من الطاعات، حتى لو فعل ذلك يلزمه الذي جعله على نفسه، ولم يجز عنه كفارة، وهذا قول أصحابنا رضي الله عنهم.
[1] صفي الرحمن المباركفوري، الرحيق المختوم (الطبعة الشرعية، بيروت، دار ابن حزم، 1431ه - 2010م) ص66 - 67.
[2] محمد، أبو بكر الرازي، مختار الصحاح (الطبعة المدققة، بيروت، مكتبة لبنان، 1987م) ص 272.
[3] عبدالله بن عبدالرحمن البسام، تيسير العلام شرح عمدة الأحكام (ط1، صنعاء - بيروت، دار الإرشاد - دار ابن حزم، 1424ه - 2004م) ص 800.
[4] أبو عبيد أحمد الهروي، الغريبين في القرآن والحديث (ط11، ج 6) ص 1823.
[5] عبدالله بن عبدالرحمن البسام، تيسير العلام شرح عمدة الأحكام (ط1، صنعاء - بيروت، دار الإرشاد - دار ابن حزم، 1424ه - 2004م) ص 800.
[6] المكتبة الشاملة، شرح لصحيح مسلم، أبو الأشبال حسن المصري.
[7] أحمد بن علي بن حجر، فتح الباري شرح صحيح البخاري (ط2، ج 11، الرياض، مكتبة العبيكان، 1425ه - 2005م) ص 589.
[8] مرجع سابق.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك