كلكم يبكي!! فمن سرق المصحف ؟
خالد بن عبد العزيز الجناحي
الحمد لله العظيم الخالق، مُبدع خلقه بلا مثالٍ سابق، والصلاة والسلام على نبينا محمد أشرف الخلائق، وعلى آله وصحبه الأخيار البيارق.
يقول الله -عز وجل-: (وكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)[آل عمران: 146].
أمّة الإسلام: إننا في زمانٍ كثرت فيه الفتن، واشتدت فيه المِحَن، وطيرت العقول، وأخذت الألباب، وأصبح الحليم في خضمّها حيران، وكل ذلك مصداق لقول البشير النذير-صلى الله عليه وسلم-: ((تكون بين يدي الساعة فتن كقطع الليل المظلم، يُصبح الرجل فيها مؤمنا ويُمسي كافرا، ويُمسي مؤمنا ويُصبح كافرا، يَبيع أقوام دينهم بعرضِ الدنيا))[صحيح الترمذي (2197) من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-].
وها هي الفتن تقع الواحدة تلو الأخرى، -عصمنا الله وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن- لقد أصبحت أمتنا بسبب ما يسلط عليها من الفتن في حالة وَهَنٍ شديد، وضعف رهيب.
ويا عجبي! كم سمعنا من أناسٍ يدعّون بأن حال الأمة لا يعنيهم، حتى قال أشقاهم: ليس لنا من الأمر شيء!.
وكم قرأنا لأقلامٍ رضوا بأن يكون مع الخوالف محتجين بأنهم لا يقدرون على شيء فالوهن جفف أقلامهم،.. وكم من خطيبٍ يحسب نفسه مفوهًا- يرمي بالحمل على حكّام الأمة حصرًا-، ويدّعي بأنَّ حالة الوهن التي ألمّت بالأمة إنما هي بسبب بُعْدِ حُكّامها عن تطبيق شرع ربها، وآخر يزعم بأن قوة الأمة في تحزبها وتجمّع أبدانها، هكذا يدّعون، وعن حمل همِّ الأمة يتهربون، ولنصرة دينهم يخذلون: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)[الحج: 40].
رضوا بالهوان وقنعوا بالمهان، وحكموا على أنفسهم بالذلة وعلى مجتمعاتهم بالحِطّة، فأصبحوا عبيدًا لدنياهم، همهم الأكبر جمع الدرهم والدينار، حتى باع أقوام من هذه الأمة دينهم بعرضٍ قليل من الدنيا بقصدٍ أو بغير قصد.
فالذي باع دينه بقصد- من أجل دنيا يصيبها أو منصبٍ يتبوئه، فذلك منافقٌ عليم اللسان، بيّن الخسران، مُتوعدٌ في الآخرة بالنيران.
أما الصنف الآخر والذي نحن نعنيه، وبهذا الخطاب نقصده، ونسأل الله -تعالى- أن يرفع عنه وعن الأمة الوهن، فهو ذاك الذي اشتغل بدنياه عن دينه، وتغافل عن شرع ربه، وابتعد عن سنّة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فهذا باع دينه بعرضِ الدنيا -من حيث لا يدري!، ربّه رصيده في البنوك، وهمّه سمعته في المجالس. قال -صلى الله عليه وسلم-: ((تعس عبد الدينار، والدرهم، والقطيفة، والخميصة، إن أُعطي رضي، وإن لم يُعْطَ لم يرضَ))[رواه البخاري (2886) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-].
وليس المعنى هنا أن هذا الإنسان يسجد ويركع للدينار، إنما تعلق قلبه بمظاهر الدنيا الزائفة، فلهث ورائها كما يلهث السبع وراء فريسته.
إنَّ بتملص هؤلاء القوم حكّامًا ومحكومين- من السعي للنهوض بالأمة إلى سابق عهدها، وإعلاء راية الجهاد في سبيل دينها والجهاد أنواع-، يكونون قد حكموا على أنفسهم بحياة يموتون فيها كل يومٍ عدة موتات، مؤثرين على أنفسهم موتة يحيون بعدها حياة سرمدية؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: ((من لم يغز، أو يجهز غازيا، أو يخلف غازيا في أهله بخير، أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة))[رواه أبو داود (2503)، وصححه الألباني، من حديث أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه-].
لقد ركب أولئك القوم موجةٌ لجيةٌ ستقودهم ومجتمعاتهم -ولا محالة- إلى الغرق الحتمي والهلاك المأساوي، و(لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ)[هود: 43]، ورحمة الله -تعالى- لا تكون إلا للمخلصين.. الصادقين.. المصلحين، فهؤلاء الثلاثة، تجدهم يقلبون الليل والنهار يحملون همَّ الدِّين وحال المسلمين، ويسعون لإخراج الأمة من غياهب الهوّة، ويحذرونها من الوقوع في الفتنة.
أيها المسلمون: لا يجوز للمسلم أن يجعل هذا الوهن الواقع بالأمة يتسرب بين أفرادها ويستحكم همّتها، فهذا مرض قاتل حذر الله المسلمين منه لمّا دبَّ الوهن فيهم بعد غزوة أُحُد؛ فخاطبهم ربنّا -عز وجل- قائلًا: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[آل عمران: 139].
فإن من سنة الله في أمة الإسلام أن تنتصر وتنهزم، وتفتح عليها الخيرات وكذلك تُبتلى بالمصائب ونقص في الأموال والأنفس والثمرات؛ لتكون لهم دروسًا قاسية يتعلم فيها المؤمن أشياء لم يكن ليتعلمها ويعيها بالوعظ والكلام، قال - تعالى -: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)[آل عمران: 141-142].
أحبتي في الله: إن لوقوعِ هذا الوَهَن أسبابٌ شرعية ودواعي اجتماعية حريٌ بنا أن ندرسها ونعرف مواطن الخلل فيها. وهذه مسؤلية جميع أفراد الأمة بجميع طبقاتها، كلٌّ بحسب مكانه وإمكانياته، ولا يقتصر هذا العمل على الجهات الرسمية أو المؤسسات الدعوية.
ولو تأملنا في الخطاب القرآني لوجدنا الله -عز وجل- إذا خاطب خطاب إصلاحٍ في القرآن العظيم عممه على جميع أفراد الأمة، قال -تعالى-: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) [آل عمران: 110]، وقال -تعالى-: (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)[الأعراف: 181].
وقد أخبرنا ربنا -عز وجل- عن أقوامٍ استغربوا من عملِ بعض الصالحين من أمّتهم، كيف يعظون مَنْ كانوا في ضلان مبين؟ فجاء ردُّ المصلحين عليهم، بأن لعلهم يتّقون ويرجعون إلى الله -عز وجل- وإليه وينيبون، قال - تعالى -: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)[الأعراف: 164].
إذًا، الإصلاح مسؤولية ملقاة على عاتق جميع أفراد الأمة، كلٌّ بحسب استطاعته، ولا يجوز بحال للمكلف من هذه الأمة أن يتنصل من مسؤولية الإصلاح، فيقف بعيدًا ويكتفي بالبكاء -أو قل التباكي- على حالت الأمة الإسلامية اليوم وما آلت إليه من ضعف ووهن، ويا ليت شعري، هل ينفع البكاء الميت، وهل يدفع الحزن المصيبة؟
إنما هو العمل الموافق للكتاب المبين، واتباع هدي خير المرسلين، على فهم سلفنا الصالح -رضي الله عنهم أجمعين-، قال - تعالى -: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)[التوبة: 106].
أيها المؤمنون: لنتعظ من أخبار الأمم السابقة كيف أنهم لمّا تركوا اليقين بربهم، وآثروا المهابة من عدو الله وعدوهم، عمّهم العذاب وتقطعت بهم الأسباب؛ لقد قصَّ الله -عز وجل- علينا قصة بني إسرائيل وكيف أنَّ نفوسهم قد جبلت على الذل والخور والجبن تحت سيطرة فرعون وقهره أمدًا من الدهر؛ فلمّا امتن الله على بني إسرائيل بأن أنجاهم من فرعون وأغرقه وجنوده في اليم، بشّرهم الله -تعالى-بالرجوع إلى أوطانهم وديارهم الأرض المقدسة- وكان الله -تعالى- قد كتب الجهاد عليهم وأوجبه، ثم طمأنهم بالنصر المبين؛ فأخذ موسى يعظهم ويحثهم على الجهاد، ويذكرهم بنعم الله الكثيرة عليهم التي خصّهم بها، وأنهم كانوا في ذلك الزمان خيرة الخلق وأكرمهم على الله - تعالى -: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ)[المائدة: 20-21].
فما كان منهم إلا أن نكثوا عهدهم ولم يطمئنوا لوعد ربهم: (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ)[المائدة: 22].
وهذا الجواب بسبب الجبن وضعف الإيمان الملتصق بهم، وإلا فالله -تعالى- قد وعدهم بالنصر: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ).
فلم يستجيبوا لله ورسوله ولم ينهضوا للجهاد في سبيله: (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)[المائدة: 24] فأتى العقاب الرباني: (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)[المائدة: 26].
وبهذا يقول العلامة السعدي في تفسيره: " أي: إن من عقوبتهم أن نحرّم عليهم دخول هذه القرية التي كتبها الله لهم، مدة أربعين سنة، وتلك المدة أيضا يتيهون في الأرض، لا يهتدون إلى طريق ولا يبقون مطمئنين، وهذه عقوبة دنيوية، لعل الله -تعالى- كفر بها عنهم، ودفع عنهم عقوبة أعظم منها، وفي هذا دليل على أن العقوبة على الذنب قد تكون بزوال نعمة موجودة، أو دفع نقمة قد انعقد سبب وجودها أو تأخرها إلى وقت آخر.
ولعل الحكمة في هذه المدة أن يموت أكثر هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة، الصادرة عن قلوب لا صبر فيها ولا ثبات، بل قد ألفت الاستعباد لعدوها، ولم تكن لها همم ترقيها إلى ما فيه ارتقاؤها وعلوها، ولتظهر ناشئة جديدة تتربى عقولهم على طلب قهر الأعداء، وعدم الاستعباد، والذل المانع من السعادة" انتهى كلامه -رحمه الله-.
إخوة الإسلام: فمنذ سقوط الأندلس والأمة تلبس رداءً مرقعًا مغبرًا اسمه "رداء الوهن! "، أما آن الأوان لتجتمع الأمة على حياكة رداءٍ جديدٍ اسمه "رداء العزة! "، يعيد للأمة زهوها الساطع وبهائها الناصع؟ ولن تستطيع الأمة حياكة هذا الرداء ((حتى ترجعوا إلى دينكم))[رواه أبو داود (3462)، وصححه الألباني، من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-].
ولو أنَّ المسلمين أخلصوا في البحث في كل مظنة ضعف عن سبب قوة، وجدّوا في طِلاب ذلك لاستحصلوه، ولصار الضعف قوة، لأن الضعف قد ينطلي على قوة مستورة يؤيدها الله بحفظه ورعايته فإذا قوة الضعف تهز الجبال وتحير الألباب: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)[الفتح: 7].
فمسؤولية نفض غبار الوهن تقع على جميع أفراد الأمة حكامًا ومحكومين، قيادة وشعوب، فلا يجوز أن يتنصل فرد من مسؤوليته ويتخلى عنصر عن واجبه، فنكون كما ذُكر في كتب السير والتراجم: أنَّ مالك بن دينار من سادات التابعين الزهاد، وأمهر نسّاخ المصاحف، وأكثر الوعاظ تأثيرًا، قيل أنه جلس يُذكّر الناس، وكان بجانبه مصحف، وتأثر الناس بوعظه فوجلت القلوب وذرفت العيون، ولكنه التفت مرة ذات اليمين فلما استقر بصره مكانه فوجئ أن المصحف الذي كان بين يديه اختفى، فتأمل في وجوه المتباكين وأنصت لضجيج أصواتهم، ولما لم يجد المصحف قال لهم: كلكم يبكي فمن سرق المصحف؟!
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك