09-25-2015, 10:17 AM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 376,532
|
|
السياقُ التاريخيّ لترك العمل بالمذاهب الفقهية - د. عصر محمد النصر
(السياقُ التاريخيّ لترك العمل بالمذاهب الفقهية)
لم يكن سياق ترك المذاهب الفقهية على المستوى العام المنظم لشأن التدين في عموم الأمة = مجرد دعوة يدعى إليها وينظّر لها، مع وجود ذلك، إلا أنّ سياقها متعلق بالنظام العام للأمة ولها ارتباط وثيق بسياستها ونظام الحكم فيها، وليس الأمر خاصا بالمذاهب الفقهية محل البحث هنا، بل يرد على المذاهب العقدية وسائر مكونات المنظومة العلمية والمعرفية، وقد قرر ابن خلدون –رحمه الله- في "المقدمة" هذه المسألة في مواضع متعددة، من ذلك قوله: "الفصل الثالث: في أن العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران و تعظم الحضارة: والسبب في ذلك أن تعليم العلم -كما قدمناه- من جملة الصنائع، وقد كنا قدمنا أن الصنائع إنما تكثر في الأمصار، وعلى نسبة عمرانها في الكثرة والقلة والحضارة والترف؛ تكون نسبة الصنائع في الجودة والكثرة، لأنه أمر زائد على المعاش، فمتى فضلت أعمال أهل العمران عن معاشهم، انصرفت إلى ما وراء المعاش من التصرف في خاصية الإنسان وهي العلوم والصنائع"( ص473)، ويقول :" الفصل السابع عشر: في أن الحضارة في الأمصار من قبل الدولة وإنما ترسخ باتصال الدولة ورسوخها، والسبب في ذلك أن الحضارة هي أحوال عادية زائدة على الضروري من أحوال العمران، زيادة تتفاوت بتفاوت الرفه وتفاوت الأمم في القلة والكثرة تفاوتا غير منحصر، ويقع فيها عند كثرة التفنن في أنواعها وأصنافها، فتكون بمنزل الصنائع، ويحتاج كل صنف منها إلى القوَامَة عليه، والمهرة فيه"(ص404)، وفي ارتباطها بنظام الحكم ووجود السلطان يقول: "الدولة والسلطان هي السوق الأعظم للعالم"(ص319)، وفي موضع آخر بيّن أحوال الفقهاء وأهل الفتوى حيث قال: "وأهل هذه الصنائع الدينية لا تضطر إليهم عامة الخلق؛ وإنما يحتاج إلى ما عندهم الخواص ممن أقبل على دينه، وإن احتيج إلى الفتيا والقضاء في الخصومات، فليس على وجه الاضطرار والعموم، فيقع الاستغناء عن هؤلاء في الأكثر، وإنما يهتم بهم وبإقامة مراسمهم صاحب الدولة، بما له من النظر في المصالح فيقسم لها حظا من الرزق على نسبة الحاجة إليهم على النحو الذي قررناه"(419-430).
ما قدمه ابن خلدون هنا يعد بمثابة مقدمة نزلف منها إلى مقصودنا، حيث بدأ السياق التاريخي المعاصر لترك المذاهب من ضعف دولة الخلافة على كل النواحي، السياسية بدرجة أولى ثم سائر شؤونها المتعلقة بإدارة الدولة، وقد كان هذا الضعف سببا في تنادي المصلحين تحت دعوات شتى لإعادة الأمة إلى مجدها، لا سيما وقد استحكمت قبضة الاستعمار على كثير من البلاد، وهذا بطبيعة الحال يستدعي إعادة تقييم الواقع الذي يعيشه المسلمون في بلادهم، وقد جرى هذا التقييم في ظل عنصر خارجي متمثل بالتقدم العلمي والتقني للدول الغربية، وقد استقر قول كثير من المصلحين على أن أول خطوة في الإصلاح هي وضع الأغلال والقيود عن العقل المسلم، وإطلاق عنان التفكير والتدبر، وأن الاختلاف والجمود والتقليد هي أهم موانعه وأشد ما يصرف عنه، وهذه القيود نتاج المذاهب الفقهية والعقدية، وقد اشتهرت هذه الدعوة عن مدرسة الإمام محمد عبده –رحمه الله- وكان ممن نظّر لها تلميذه السيد محمد رشيد رضا – رحمه الله- من ذلك قوله في "حوارات المصلح والمقلد": "ثم اشتد ضغط السياسة في هذا القرن على أهل العلم والدين في كل بلاد يحكمها المسلمون فاستيقظ لشدة وطأتها أهل الاستعداد منهم وشعروا بشدة الحاجة إلى إصلاحها قبل أن تجهز على الأمة السياسة الفاسدة وطفقوا يتنسمون ريح الحرية"(ص13)، ويقول بعد ذلك :" لا إصلاح إلا بدعوة، ولا دعوة إلا بحجّة، ولا حجّة مع بقاء التقليد، فإغلاق باب التقليد الأعمى وفتح باب النظر والاستدلال هو مبدأ كل إصلاح "(ص13)، و يمكن تلخيص فكرته بالآتي :
أن الدعوة بحاجة إلى إصلاح، وأن الإصلاح بحاجة إلى دعوة، وأن الدعوة تحتاج إلى حجّة، والحجّة غائبة بسبب التقليد - الذي هو موروث المذاهب - ثم يصور الخروج من ذلك بترك الالتزام بالمذاهب الفقهية وجَعْلها مذهبا واحدا تجتمع عليه الأمة، ويقول -رحمه الله- :" وأما الحكمة في ذلك فهي ما تشاهد من تفرّق المسلمين شيعا وحرجهم، وجعل بأسهم بينهم شديدا، ودينُهم واحدٌ ينهاهم عن الخلاف والاختلاف كما قلنا مرارا، ولو اجتمع العلماء وعملوا وأرشدوا إلى العمل بالأرجح لما خرج بذلك أولئك الأئمة عن كونهم هداة الأمة، ولصحّ ما يروى من أن اختلافهم رحمة، لأن الحقيقة تظهر من تصادم الأفكار، والصواب يؤخذ من اختلاف الأنظار، وبذلك يكون كل مسلم مهتديا بكل إمام من أولئك الأئمة من دون توزيع، ولا قول بعصمة أحد أو استقلال بالتشريع "(ص108)، وقد ختم السيد رشيد رضا باقتراح كان له أثر على من جاء بعده وتأثر به وبدعوة الشيخ محمد عبده –رحمهم الله- حيث اقترح وضع كتاب جامع يبنى على قواعد الشرع الراسخة موافقا لحال الزمان، سهل المأخذ، لا خلاف فيه (ص123)، وقد وجدت هذه الدعوى من يطبقها ويخرجها من حيّز التنظير إلى الواقع، كما فعل الشيخ السيد سابق –رحمه الله- في كتابه " فقه السنة" حيث ظهر تأثره بكلام السيد رشيد رضا، بل نقل كلامه بنصه في مقدمة كتابه، فأشار إلى أثر التقليد والجمود على الأمة، وأثر التعصب على اختلافها و تفرقها، وقد ظهر أثر دعوة الإصلاح وسؤال النهضة في سياقات المقدمة لديه، ولعل ممّا أعان على انتشار هذه الدعوى هو وجود جماعات ذات صبغة سياسية تبنّتها في ذلك الوقت، وعند النظر نجد أن هذه الدعوة اعتمدت على جملة أمور رأت فيها دليلا كافيا لتأييد ما ذهبت إليه، من ذلك: سدُّ باب الافتراق الذي نشأ عن التعصب لإمام بعينه من غير مراعاة للقدر الذي لا يخلو منه إنسان، ولا تخلو منه دعوة، كما جاء ذم التقليد في سياق الكلام مطلقا حتى دخل فيه كل ملتزم بالمذهب، وبالعودة إلى السياق التاريخي لهذه الدعوى فقد صادف انتشار هذه الدعوى تأثر بعض أهل العلم بمدرسة أهل الحديث في الهند، وبالنزعة الظاهرية لدى الإمام الشوكاني –رحمه الله-، وقد ظهرت آثار هذه النزعة في النتاج المعرفي لدى الشيخ محمد ناصر الدين الألباني –رحمه الله- وسيأتي لهذه المسألة مزيد بيان في مقال " طرق التفقه عند المتأخرين ".
هذه الدعوى بما حملته من إعادة لبناء التصور وتجديد القراءة التراثية، كانت شديدة الأثر على الواقع الفكري، خصوصا مع وجود الفراغ الكبير الذي تسبب به ضعف النظام السياسي المنظم لشأن الأمة، وهي حركة طبيعيّة في البشر، ولا يخلو منها مجتمع إنساني، وإنما يدخل الخلل - كما قدمت في المقال السابق - من جهة الخطأ في التقييم ورصد مواضع الضعف، ولا تخلو حركة المراجعة من تأثّرٍ بالعنصر الواقعي وأثر الثقافة الوافدة عليه، وشأن هذا الحراك الثقافي التأني في قبول نتائجه فهو محض اجتهاد لا يخلو من دوافع نفسية وقدر من الحماسة، وقد بدا في هذه الدعوى ضعف في تصور ماهيّة المذاهب الفقهية والبعد الاجتماعي فيها، فهي تمثل الإطار العام للحركة العلمية، وحركة التديّن في المجتمع، فلم يراع هذا القدر من البنية الذاتية للمذاهب، كما لم يراع السند التاريخي المتصل بين المدرسة المذهبية والمدرسة الفقهية في عهد الصحابة والتابعين، ودور المدرسة المذهبية في احتواء الثروة الفقهية فيها، وقد اشتملت المذاهب على أصول تصحح من خلالها المسائل، فتميز بين الصحيح والضعيف منها، وقد استطاع علماء المذاهب استيعاب تراث الأئمة في حقبة التأسيس، فهذبوها ونقوها، وإنما اعتمدوا ما صح وقوي دليله وظهر مأخذه، وغياب هذا التصور للمذاهب، قد أفضى بكثير من أهل العلم إلى الأخذ بأقوال هي في عداد المتروك أو الضعيف، ولم يخلُ كلام السيد رشيد رضا من نحو هذه الأقوال ككلامه عن مسألة المتعة، وأما في حكم الواقع فقد آل الأمر إلى فوضى فقهية لا تخفى مظاهرها على أحد، ونُزل كل عالم منزلة الإمام الذي يحتذي حذوه الناس ويقلدونه، فأصبح المذهب مذاهب متعددة.
كتبه:
د. عصر محمد النصر
دكتوراة الحديث النبوي الشريف
صفحة د. عصر على الفيسبوك:
www.facebook.com/asur.naser
وعلى تويتر:
https://twitter.com/ibnmajjah77
المصدر... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|