09-16-2015, 02:29 AM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 376,634
|
|
(08)طل الربوة-تدبر القرآن:
ولا بد لتالي كتاب الله الذي يريد منه تزكية نفسه، سواء كان أستاذا مربيا، أم تليذا متربيا، من مجاهدة نفسه لإحضار قلبه وعقله عند تلاوته، متدبراً ما يتلوه من آياته، مفتشاً عن نفسه بين سطورها، في إيمانه وعقيدته، وفي تقواه وعبادته، وفي تسليمه لمنهج ربه وطاعته، وفي كل شأن من شؤون حياته في سفره وإقامته.
فقد أنزل الله هذا القرآن إلى رسوله صلّى الله عليه وسلم، ليتدبره الناس تدبراً يحدث لذوي العقول التذكر الذي يربطهم بما فصله الله تعالى فيه من أمر يُطاع ونهي يُجتنب، وسلوك يتخلق به، وثواب يرغب فيه، وعقاب يخاف منه.
وإن ما نراه اليوم في حياة المنتسبين إلى الإسلام، من مصائب التفرق والاختلاف والنزاع المؤدي إلى الفشل، ومن التحزبات البغيضة، التي عصفت بهذه الأمة، وأخزتها بين أمم الأرض، وجعلها تتهارش فيما بينها تهارش القرود في الغابات، وجعل أعداءها يسودون عليها، ويأمرونها فتطيع في معصيىة الله، لهو بُعدُ غالب حكامها وشعوبها عن تلاوة هذا القرآن وتدبره وفقه معانيه والعمل بما فيه: قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (29)}. [ص] وهذا التدبر الذي يترتب عليه فقه القرآن والعمل بما فيه لا يتم إلا بالمجاهدة الصادقة من الأستاذ وطلابه سواء,.
وسوف لا يكون لهذه الأمة عزة ولا كرامة من لدن العزيز الكريم، إلا يوم تتلوكتابه وتتدبره وتعالج أمراضها بشفائه وهديه، وتتذكر صَغارها وذلّها، وأن ذلك لا يُرفع عنها، إلا برجوعها إليه، لا إلى طلب عزتها من أعدائها، ونسيانها لربها:{بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139)} [لنساء]
الإكثار من ذكر الله، المطلق منه والمقيد:
ومن أهم ما يقوي صلة الأستاذ وطلابه بربهم وفيما بينهم، الإكثار من ذكر الله تعالى، المطلق منه والمقيد.
والمراد بالمطلق ما لم يقيد بزمان ولا مكان ولا عدد، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41)}. [لأحزاب]
وقال تعالى في سياق صفات المؤمنين والمؤمنات: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35)}.[لأحزاب]
عن عبد الله بن بسر رضي الله عنْه، أن رجلاً قال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثُرت عليَّ فأخبرني بشيء أتشبث به قال: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله) قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.[لترمذي (5/458) والحاكم في المستدرك (1/672) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.]
فعلى المعلمين والمتعلمين، أن يحيوا قلوبهم بذكر الله، ولا يكونوا أمواتاً وهم يعيشون على ظهر الأرض، ففي صحيح البخاري عن أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلم، قال: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه، مثل الحي والميت). [صحيح البخاري رقم 6044.]
والذكر المقيد ما قيد بزمان، كأذكار الصباح والمساء وأدبار الصلوات، أو بزمان ومكان كأذكار مناسك الحج المعينة، وغير ذلك، أو بعدد كالاستغفار مائة مرة، وتسبيح ثلاث وثلاثين.
ويمكن الرجوع في هذا الباب، إلى أبواب الأذكار في كتب الحديث، والكتب الخاصة
بالأذكار، كالأذكار للنووي، والكلم الطيب لابن تيمية، وصحيحه للألباني، والوابل الصيب، لابن القيم، وغيرها من كتب السنة.
وينبغي أن يعلم أن حقيقة الذكر المشروع هو الذي يصدر عن القلب ويتحرك به اللسان، ولا ينفع الذكر باللسان مع غفلة القلب ولهوه، قال القرطبي رحمه الله أثناء تفسير قوله تعالى في سورة البقرة: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}: "وأصل الذكر التَّنَبُّه بالقلب للمذكور والتيقظ له، وسمي الذكر باللسان ذكراً لأنه دلالة على الذكر القلبي، غير أنه لما كثر إطلاق الذكر على القول اللساني صار هو السابق للفهم". انتهى.
كما أن من أهم ما يجب أن يحدثه الذكر في صاحبه طاعة الله بامتثال أوامره، واجتناب معاصيه، فالذاكر الصادق في ذكره لا تجده يحرك لسان، وهو يمارس ما يسخط الله تعالى، هذا ما قرره علماء المسلمين الذين فقهوا حقيقة ذكر الله. نقل القرطبي رحمه الله عن سعيد بن جبير قوله: "الذكر طاعة الله، فمن لم يطعه لم يذكره وإن أكثر التسبيح والتهليل وقراءة القرآن".
القراءة في كتب السنة والسيرة المطهرة:
ومما يقوي الصلة بالله تعالى القراءة المستمرة في كتب السنة، وسيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم؛ لأن السنة تفسر القرآن، وتكمل ما أراد الله من عباده، والرسول صلّى الله عليه وسلم، هو القدوة الحسنة للمسلم. كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21)}. [لأحزاب]
[وقد تضمنت سيرته صلّى الله عليه وسلم، الأمهات الست، والترغيب والترهيب، ورياض الصالحين، ومشكاة المصابيح، وسيرة ابن هشام، والبداية والنهاية لابن كثير، وفقه السيرة للغزالي وغيرها، وغيرها كثير].
دراسة سيرة أصحاب الرسول صلّى الله عليه وسلم:
ويكمل ذلك قراءة سيرة أصحاب الرسول صلّى الله عليه وسلم، لمعرفة قدرة غير المعصومين الاقتداء بالمعصوم في حدود قدرتهم البشرية، فقد يقول القائل: أين نحن من رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ وقد أكرمه الله برسالته وحباه بتوفيقه وعصمته، فيقال له: إنه ليس المقصود بالاقتداء به صلّى الله عليه وسلم، الوصول إلى رتبته التي أثمرها اصطفاؤه للرسالة ومنحه من ربه عصمته، وإنما المقصود مجاهدة المسلم نفسه المجاهدة المستطاعة للاقتداء بنبيه، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولهذا أتبعنا سيرته صلى الله عليْه وسلم، بسيرة أصحابه.
فلنا قدوة في أصحابه رضي الله عنْهم، الذين حققوا تلك القدوة السامية برسولهم صلّى الله عليه وسلم، باعتبارهم النموذج البشري غير المعصوم عصمة الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولا نزال نرى من المسلمين في كل عصر من العصور الإسلامية نماذج سامقة في الاقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأصحابه.
وكل ذلك يرد على أعداء هذا الدين الذين يسعون جاهدين إلى تأييس المسلمين من إمكان تطبيق الشريعة الإسلامية، كما كانت في العصر الإسلامي الأول؛ لأن ذلك العصر كان من العصور المثالية التي لا يمكن تكرارها في الحياة.
فالحقيقة التي لا شك فيها أن التزكية الربانية التي أوجدت تلك النماذج في العصر الإسلامي الأول وما تلاه من العصور المفضلة، أهملها ولاة أمور المسلمين، بل حاربها كثير منهم، وحالوا بين علماء الأمة من دعاة الإسلام الذين يرغبون في إعادة تلك التربية التي خرّجت الأجيال المسلمة الصالحة.
والدليل على ذلك أنه إذا وَجَد دعاةُ الإسلام فرصة لإنشاء بعض المدارس والمعاهد الإسلامية ووضع مناهج دراسية مؤسسة على مبادئ الإسلام، ينشأ فيها جيل يحاول تحقيق الاقتداء بالرسول صلّى الله عليه وسلم في مدة قصيرة من الزمن مع كثرة العوائق التي تعترض ممارسته لذلك التحقيق، فَيُدهِش ذلك أعداء الإسلام في داخل البلاد الإسلامية وخارجها، وتلاميذهم من المنافقين من نفس البلد الذي ظهر فيه ذلك الجيل الصالح، فيهبون جميعاً لهدم أي مؤسسة إسلامية تظهر فيها ثمرة العودة إلى إظهار التطبيق العملي للاقتداء بالرسول صلّى الله عليه وسلم.
وها نحن نشاهد في هذا العصر الذي يحارب فيه الإسلام فكراً ودعوةً وتربيةً وتعليماً وإعلاماً وسياسة، بل يحارب بالسلاح الفتاك: البري والجوي والبحري في بلدانه ويُقتل أبناؤه وبخاصة علماءه ودعاته، نشاهد إقبال شباب المسلمين وشاباتهم إلى الإسلام في مؤسسات ألفت البعد عن الدين والتدين، مثل الجامعات المسماة بـ(العلمية) ككليات الطب والهندسة والاقتصاد والجغرافيا ونحوها.
فإذا أُجريت في تلك الجامعات انتخابات لاتحادات الأساتذة والطلاب، يكون الفوز الساحق غالباً للإسلاميين على من سواهم ممن يعارضونهم، ولهذا تتدخل أجهزة الحكومات المعنية لإيقاف نتائج الانتخابات، أو إيقافها قبل إجرائها إذا شعرت بهزيمة مواليها فيها، ومثل الجامعات النقابات على تنوعها.[يراجع لسيرة الصحابة ومن تبعهم بإحسان تاريخ ابن كثير وغيره، كحياة الصحابة، وسيرة الخلفاء للسيوطي وكذلك سيرة الدعاة العاملين في كل زمان ومكان.]
بل إن الانتخابات البرلمانية والرئاسية، التي تجرى في بعض البلدان الإسلامية اليوم – برغم التحزبات التي تحارب الحكم بالإسلام والدعوة إلى تطبيقه – في داخل البلد وفي البلدان المجاورة له من بلدان المسلمين، ومن البلدان غير الإسلامية، ينجح فيها الإسلاميون، كما حدث في البلدان التي حظيت بما يسمى بـ "الربيع العربي" ولا تفتأ القوى المعادية للإسم تحاربهم، باسم الحرية وحقوق الشعوب، والاستئثار بالسلطة، ولكن المستقبل سيكون للإسلام بإذن الله.
المصدر... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|