بسم الله الرحمن الرحيم
هذه أيها الأحبة مقالة جديدة لشيخنا أبي عبد الله حمزة النايلي (وفقه الله)، نفعنا الله وإياكم بها.
أثر الهدية على النفوس
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين،نبينا محمد و على آله،وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إنَّ تبادل الهدايا والعطايا بين المسلمين أيها الأحباب من بين أهم الأسباب المعينة على نشر الألفة والمحبة بينهم بإذن العزيز الوهاب، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" تَهَادَوُا تَحَابُّوا ". رواه البخاري في الأدب المفرد (594)، وحسنه الشيخ الألباني – رحمه الله- كما في صحيح الجامع (5351)
يقول المناوي – رحمه الله- :" ندب إلى دوام المهاداة لتزايد المحبة بين المؤمنين، فإن الشيء متى لم يزد دخله النقصان على مر الزمان، ويحتمل تزدادوا حبا عند الله لمحبة بعضكم لبعض ".فيض القدير (3/271)
فهي وسيلة حميدة تزيد من أواصر الترابط والإخاء بين الأهل والأصحاب والأقرباء وتُساهم في تصفية النفوس من الحقد و الشحناء والبغضاء ، يقول الإمام ابن حبان – رحمه الله- :" وإني لأستحب للناس بعث الهدايا إلى الإخوان بينهم إذ الهدية تورث المحبة وتذهب الضغينه ".روضة العقلاء ( ص 242)
وهي إذا كانت بين الزوجين فإنها تُعين على تقوية علاقتهما ببعضهما ، وتزيد من المحبة و الألفة بينهما، وتكون كذلك بإذن رب البريات سببا في إزالة ما قد يحصل بينهما من خلافات و نزاعات لأنها تُعين على تطهير القلب من الشوائب والآفات، يقول الإمام القرطبي – رحمه الله- : "الهدية مندوب إليها، وهي ممّا تورث المودة وتذهب العداوة". تفسير القرطبي (13/132)
إن تقديم الهدايا للآخرين مهما كانت صلة قرابتهم من العادات الجميلة و الصفات الحميدة وهي من شيم أصحاب النفوس الكريمة ومن مناقب أهل الجود والعطاء ، يقول الإمام ابن عبد البر – رحمه الله- :"والهدية من أفعال المسلمين الكرماء والصالحين والفضلاء ".الاستذكار ( 1 /531)
ولما كان لهذه الخصلة الكريمة هذه المكانة الرفيعة و هذا التأثير القوي على نفوس الآخرين حثنا خير المرسلين على بذلها ورغبنا في أخذها مهما قلت ما لم يكن في ذلك مخالفة لتعاليم الدين ، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"وَلَوْ أُهْدِيَ إلي ذِرَاعٌ أو كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ ". رواه البخاري ( 2429)
يقول ابن بطال – رحمه الله- :" هذا حض منه لأمته على المهاداة ، والصلة ، والتأليف ، والتحاب ، وإنما أخبر أنه لا يحقر شيئًا مما يُهدى إليه أو يدعى إليه ؛ لئلا يمتنع الباعث من المهاداة لاحتقار المهدي ، وإنما أشار بالكراع وفرسن الشاة إلى المبالغة في قبول القليل من الهدية ، لا إلى إعطاء الكراع والفرسن ومهاداته ؛ لأن أحدًا لا يفعل ذلك ". شرح صحيح البخاري لابن بطال ( 7 / 87)
ويقول العيني – رحمه الله- :" وفي هذا الحديث : دليل على حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وتواضعه وجبره لقلوب الناس ، وعلى قبول الهدية وإن كانت قليلة ".عمدة القاري ( 20 / 161)
بل كان كذلك من هديه صلى الله عليه وسلم مع قبوله للهدية أن يُكرم من أهداه ويثيبه عليها، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت :" كان رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عليها ". رواه البخاري (2445)
يقول ابن الجوزي – رحمه الله- :"إنما كان يقبل الهدية ليظهر حسن خلقه ، ولتتألف القلوب على محبته وإنما كان يثيب عليها لئلا يكون لأحد عليه منة" .كشف المشكل ( 4/ 389)
وقد أمر صلى الله عليه وسلم بقَبول الهدية ونهى عن ردها وعدم قبولها ، فعن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ –رضي الله عنه- قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" أَجِيبُوا الداعي، وَلاَ تَرُدُّوا الْهَدِيَّةَ، وَلاَ تَضْرِبُوا الْمُسْلِمِينَ".رواه الإمام أحمد في المسند (1/404)، وصححه الشيخ الألباني – رحمه الله- في صحيح الجامع (158)
يقول الإمام ابن حبان-رحمه الله-:"زجر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر عن ترك قبول الهدايا بين المسلمين
فالواجب على المرء إذا أهديت إليه هدية أن يقبلها ولا يردها ثم يثيب عليها إذا قدر ويشكر عنها".روضة العقلاء (ص 242)
وقد رغب أكثر صلى الله عليه وسلم في قبول وعدم رد بعض الهدايا ومن ذلك الطيب واللبن ، فعن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما- أن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:" ثَلَاثٌ لَا تُرَدُّ: الْوَسَائِدُ، وَالدُّهْنُ- الطيب-،وَاللَّبَنُ ". رواه الترمذي (2790)، وحسنه الشيخ الألباني – رحمه الله- .
يقول المناوي – رحمه الله- :" ( ثلاث لا ترد ) أي لا ينبغي ردها (الْوَسَائِدُ ) جمع وسادة بالكسر المخدة (وَالدُّهْنُ ) قال الترمذي يعني بالدهن الطيب (وَاللَّبَنُ ) فينبغي لمن أهديت إليه أن لا يردها فإنها قليلة المنة خفيفة المؤنة ".التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 472)
فعلى المسلم أن يحرص على العمل بهذه الوصية النبوية ولا ينبغي عليه أن يرد الهدية ما لم يكن في قبولها مخالفة شرعية ، يقول الإمام ابن عبد البر – رحمه الله- :"ويستحبها – الهدية- العلماء ما لم يسلك بها سبيل الرشوة لدفع حق أو تحقيق باطل أو أخذ على حق يجب القيام به ".الاستذكار ( 1 /531)
و أما في حال ردِّه لهدية قُدمت إليه وجُلبت من أجله فالأولى به أن يبين سبب ذلك حتى لا يبقى في نفس من أهداه شيئا عملا بهدي نبينا عليه الصلاة والسلام ، فعن ابن عَبَّاسٍ أن الصَّعْبِ بن جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَحْشِيًّا وهو بِالْأَبْوَاءِ أو بِوَدَّانَ -[ مكانان بين مكة والمدينة]- فَرَدَّهُ عليه رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال فلما أَنْ رَأَى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ما في وَجْهِي قال: إِنَّا لم نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلا أَنَّا حُرُمٌ ". رواه البخاري (1729) ومسلم (1193) واللفظ له.
يقول ابن بطال – رحمه الله-:" وفى رد النبي - صلى الله عليه وسلم - الحمار على الصَّعْبِ بن جَثَّامَةَ وهو محرم دليل على أنه لا يجوز قبول ما لا يحل من الهدية ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما رده عليه لأنه لا يحل له قتل الصيد وهو محرم ، وكان الحمار حيًا ، فدل هذا أن المهدي إذا كان معروفًا بكسب الحرام ، أو بالغصب والظلم ، فإنه لا يجوز قبول هديته . وفيه الاعتذار إلى الصديق ، وإذهاب ما يخشى أن يقع بنفسه من الوحشة وسوء الظن ". شرح صحيح البخاري لابن بطال ( 7 / 90)
وليحذر كذلك أشد الحذر أيها الأحبة الكرام من أن يرجع المعطي في هدية قد أعطاها لغيره من الأنام! فإن هذا الفعل ليس من شيم الكرام وقد نهانا عن ذلك نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام ، فعن عبد الله بن عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ليس لنا مَثَلُ السَّوْءِ الذي يَعُودُ في هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَرْجِعُ في قَيْئِهِ ". رواه البخاري ( 6574)
يقول الحافظ ابن حجر- رحمه الله- :"أي: لا ينبغي لنا معشر المؤمنين أن نتصف بصفة ذميمة يشابهنا فيها أخس الحيوانات في أخس أحوالها، قال الله سبحانه وتعالى:( لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى)[ النحل: 60]، ولعل هذا أبلغ في الزجر عن ذلك وأدل على التحريم مما لو قال مثلا : لا تعودوا في الهبة، وإلى القول بتحريم الرجوع في الهبة بعد أن تقبض ... ".فتح الباري ( 5 / 235)
ويقول الإمام ابن عبد البر – رحمه الله- :" أما أحمد بن حنبل فقال لا يحل لواهب أن يرجع في هبته ولا لمهد أن يرجع في هديته وإن لم يثب عليها ".التمهيد لابن عبد البر ( 7/ 240)
فالله الله أيها الأفاضل في الحرص على العمل بهذه الخصلة الحميدة و الصفة الكريمة فكم بسببها بعد فضل العزيز المتين ذهبت من ضغينة، وجلبت من محبة وألفة، وكم ساهمت في تقوية أواصر الأخوة و القرابة بين المسلمين ، وكم كانت سببا في هداية الكثير من الغافلين والحمد لله رب العالمين.
فالله أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يؤلف بين قلوب المسلمين في كل مكان ، وأن يعينهم على العمل بكل الوسائل التي تنفعهم في الدارين ، وأن يحفظهم من كيد الكائدين ويرد عنهم مكر الماكرين ، فهو سبحانه ولي ذلك وأرحم الراحمين.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أبو عبد الله حمزة النايلي
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك