07-24-2015, 05:25 AM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 377,285
|
|
>أدب الاختلاف من قصة بني قريظة عند الأسلاف
هذه كلمة لطالما وددت أن أخرجها وألقيها الى اخواني فيها التذكير بأخلاق الاسلام و آداب المسلمين عند الاختلاف والتنازع في مسائل العلم و مراعاة حقوق الأخوة و الحدر والاحتياط لأعراض المسلمين
فقد روى العقيلى وغيره بسنده الى عبد الرزاق صاحب المصنف عن شيخه معمر بن راشد
قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَيُّوبَ اغْتَابَ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا عَبْدَ الْكَرِيمِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ فَقَالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ، كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ، لَقَدْ سَأَلَنِي عَنْ حَدِيثٍ لِعِكْرِمَةَ ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُهُ مِنْ عِكْرِمَةَ
والله حين يقرأ المسلم كلاما مثل هذا فان يده تكاد تشل فلا تكتب حرفا واحدا في الفقه و لا في غيره
وأيوب هو السختياني امام من أئمة صغار التابعين وسيد العلماء بالبصرة وغيرها و لجلالته فقد روى عنه مالك وهو لم يرو عن أحد من أهل العراق سوى ثلاثة أو أربعة فقد كان رحمه الله تعالى يأخذ العلم من علماء المدينة لكن قال عن أيوب (كتبت عنه لما رأيت من جلالته)
وقال عنه أيضا شعبة (ما رأيت مثله) وقد قدمه سفيان وأحمد على مالك في نافع
فتأمل في عبارته في نقد رجال الحديث فقد حدث عبد الكريم بن أبي المخارق بحديث عن عكرمة فراح بعد ما سمعه منه ينسبه الى نفسه وأسقط أيوب
وهذا عند علماء الحديث تدليس محض و كذب صريح وتشبع بما لم يعطى ومع كل هذا فكيف وصف أيوب هذا الرجل ,فانه لم يزد على أن قال (رحمه الله كان غير ثقة)
فقد دعا له أولا بالرحمة ثم نفى عنه الثقة بألطف عبارة وكان يمكن أن يقول غير ذلك مع أن المقام يجوز فيه ذكر الخصال السيئة في الرجل لأن الأمر يتعلق بالحديث عن النبي عليه السلام فيجب للضرورة وللمصلحة العظيمة في حفظ الدين ما يحرم في غير هذا الموضع
لذلك كان النقاد من أهل الحديث يتخيرون من الألفاظ أحسنها ومن العبارات ألطفها في تجريح الرواة كما كان يقول امام الصنعة(فيه نظر أو سكتوا عنه أو تركوا حديثه..)
ومع ذلك فهم يسمون هذا الكلام ((غيبة)) ولم يببحوه الا اباحة الضروات للمحضورات
وهذا الراوي عبد الكريم بن أبي المخارق أجمع أهل الحديث على ترك الاحتجاج به
وكان من مرجئة البصرة المشهورين
وقال في الحسن و ابن سيرين أنهما ضالان وكان كثير الوهم فاحش الخطأ
لكن أئمة الجرح والتعديل الذين خلقهم الله تعالى لحفظ هذا الدين والذب عن الحديث والذين لم يتكلموا في الرجال الا لذلك الغرض النبيل بعد أن أيقنوا أن تلك المصلحة العليا لا تتحقق الا بهذه المفسدة فقللوها ما استطاعوا وتخففوا منها ولم يتكلموا في أعراض الرواة الا بمختصر العبارات وأنسب وألطف الكلمات
فقال أحمد كان ابن عيينة يستضعفه
و عن معمر ، قال : قال أيوب : لا تأخذوا عن عبد الكريم أبى أمية ، فإنه ليس بثقة
وقال يحيى : قد روى مالك ، عن عبد الكريم أبى أمية ، و هو بصرى ضعيف .
قال الحميدى ، عن سفيان : قلت لأيوب : يا أبا بكر ، مالك لم تكثر عن طاووس ؟
قال : أتيته لأسمع منه فرأيته بين ثقيلين : عبد الكريم أبى أمية ، و ليث بن
أبى سليم ، فذهبت و تركته
و قال النسائى ، و الدارقطنى : متروك .
و قال السعدى : كان غير ثقة .
و كذا قال النسائى فى موضع آخر
و قال الحاكم أبو أحمد : ليس بالقوى عندهم .
و قال الجزرى : غيره أوثق منه .
و ذكره ابن البرقى فى طبقة من نسب إلى الضعف
و قال أبو زرعة : لين
و قال أبو داود ، و الخليلى ، و غير واحد : ما روى مالك عن أضعف منه
ومالك رحمه الله لم يرو له الا حديثا واحدا وهو صحيح ثابث من طرق غير طريقه وهو لم يكن يعرفه فانه بصري لم يكن من أهل بلده كما قال ابن عبد البر فغره سمته
أما اخراج الشيخين له فقد رد ذلك خاتمة الحفاظ ابن حجر ما قاله الحفاظ كالمزي والمقدسي
فالبخاري لم يخرج له الا حديثا واحدا والحديث ليس له بل رواه سفيان عن سليمان عن طاوس عن ابن عباس
ثم قال البخاري بعده ((" قَالَ سُفْيَانُ: وَزَادَ عَبْدُ الكَرِيمِ أَبُو أُمَيَّةَ: «وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ»))
والبخاري روى الحديث كما سمعه من شيوخه لا ينقص ولا يزيد حرفا واحدا
أما ما وقع في الصحيحين من رواية عبد الكريم عن مجاهد في الحج وغيره فقد رد الحافظ على من زعم أنه ابن أبي المخارق و بين أحسن بيان أنه عبد الكريم بن مالك الجزري الثقة المتقن
وأيضا قال الحافظ أن مسلما لم يخرج له في الصحيح الا حديثا واحدا ورجح أيضا أنه الجزري
والمقصود أن يتخير المسلم من الكلام أحسنه ومن العبارات أجودها ولا يقولن الا خيرا أو يصمت فذلك خير , وبخاصة في مجالس العلم والذكر فانها تنزل عليها الرحمة والبركة
وان كان الله تعالى قد أمر المؤمنين ألا يجادلوا أهل الكتاب من اليهود والنصارى ((الا بالتي هي أحسن )) وهذا استثناء مفرغ يعني ليس توجد في الجدال الا هذه الطريقة فان كان هذا مع أعداء الله فكيف تكون مجادلة المؤمنين
ولعل قائلا يقول أخذتني العصبية والحمية انتصارا لكلام النبي عليه السلام وغضبا لهذا الدين
فالجواب أن كل هذه الصفات من الجاهلية و النبي عليه السلام الذي غضبت له قد قال لك (لا تغضب) وقد أمرك باللين ولم يكن أحد ألين منه وأسمح خلقا وأعظم حلما
وأخشى أن يكون هذا غضبا للنفس وانتصارا للهوى وانتقاما لشهوة خفية , وتنفيسا لنزغة ونزعة شيطانية , قد زينها ابليس فأخرجها في حلة بهية , ظاهرها حق مبهرج يتوهج , وباطنها باطل زائغ معوج ممجج
لذلك يجب قبل البدء في عرض أي مسألة في الفقه أو الحديث أن يطرح كل مسلم ما عنده من حكم مسبق فيها أو رأي قديم أو هوى أو تعصب أو تقليد لرجل أي كان ثم يقرأ ما قاله الأئمة السابقون والسادة المقدمون بقلب فارغ من كل شيء الا ابتغاء تحقيق الصواب ومعرفة الراجح من المرجوح
وبعد ما يستقر أمره على رأي فليلتزمه في خاصة نفسه وان شاء أن يبينه لغيره بالتي هي أحسن و يجادل فيه بالكلم الطيب فان مال المنازع الى رأيك فبها ونعمت وان أقنعك هو برأيه فلا يجوز لك أن تستعصم برأيك بل سارع في مخالفة هواك وان ثقل عليك , فالحق والهوى لا يجتمعان في مكان واحد ولا في زمان واحد فأنزل نفسك المنزل الذي يحب الله عز وجل أن يراك فيه
وبعد هذه المقدمة فلنبدأ على بركة الله بقلوب سليمة وألسن كريمة
فمن المعلوم أن أئمتنا من الصحابة الى التابعين الى من بعدهم والاختلاف في مسائل الفقه وليس في مسائل الاعتقاد جار فيهم وظاهر في أقوالهم
بل انك تجد في المدهب الواحد عن الامام الواحد القولين والثلاث أو أكثر من ذلك كما في مذهب الامام أحمد لكثرة أصحابه واختلاف أفهامهم عند تحقيق المناط في تخريج كلامه أو فتاواه أو التفريع على أصوله وقياس غير المنصوص على المنصوص أو تضعيف حديث قد عمل بصحته ثم تبينت له علته أو العكس وغيرها من الأسباب
ويكفي لزيادة الوقوف على هذا أن تفتح أي كتاب فقه فستتعجب من كثرة الاختلاف في المسائل وتعدد الأقوال حتى يكاد المرء يجزم ألا توجد مسائل قد أجمعوا عليها الا قلة من القليل
وما قصة بني قريظة عن هذا المعنى ببعيدة
فقد أمر النبي عليه السلام الصحب الكرام أن لا يصلين أحد العصر الا في بني قريظة
فساروا ولما حضرت الصلاة اختلفوا على فرقتين
فطائفة توقفت عند هذا الأمر الذي جاء بصيغة النفي المطلق بعده الاستثناء المفرغ وأكد بنون التوكيد فكل هذا يؤكد أن النبي عليه السلام لم يرد شيئا الا أن يصلوا في بني قريظة وقد علم أنه يمكن أن يصلوا المكان ويصلوا بعد خروج وقت العصر فدل هذا على أنه قصد منهم الصلاة في ذلك المكان الذي نص عليه فقدموا خصوص المكان على عموم المحافظة على الزمان
وهم يعلمون أن اخراج الصلاة عن وقتها من أعظم الكبائر وبخاصة صلاة العصر الصلاة الوسطى لكن رؤوا أن نصوص المحافظة على الوقت عامة وقد خصصها هذا الأمر الذي سمعوه من الرسول صلى الله عليه وسلم فيبنى العام على الخاص , فهذه الطائفة وقفت مع ظاهر النص وعملت بالمنصوص ولم تلتفت الى المعاني والمقاصد من وراء الخطاب
لكن الطائفة الثانية رأت أبعد من ذلك ولم تقف عند ظاهر النص والألفاظ المنصوص عليها فنظرت الى المعاني ولم تقف عند ظاهر النص
فقالوا ان المكان المنصوص على الصلاة فيه غير مقصود
وانما قصد النبي عليه السلام منا تعجيل السير حتى نصل الى بني قريظة قبل العصر فنصلي هناك
وقالوا كيف يمكن أن يأمرنا بتأخير الصلاة اذا حضر وقتها وهو الذي كان ينهانا أشد النهي عن تأخيرها وقد صحبناه سنين عددا في الحضر وفي السفر ولم نره أخر صلاة قط بل لم يكن يؤخرها عن أول وقتها المختار فكيف يتركها حتى يخرج كل وقتها وقد علمتم ما حدث يوم الخندق حين شغل عنها حتى صلاها بعد الغروب فقال
«شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، مَلَأَ اللهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نارا »
فنسخ هذا الفعل بصلاة الخوف ولم يعد النبي عليه السلام الى مثل هذا التأخير فصلينا في غزوة ذات الرقاع الصلاة حين حضر وقتها ونحن في قبالة العدو واكثر من ذلك اذا اشتد القتال و تعذر الاصطفاف للصلاة فقد أمرنا أن نصلي على اي حال رجالا وركبانا ايماء و اشارة ولو جاز تأخير الصلاة لجاز في هذا الموضع وقد قال عليه السلام
((وإن كانوا أكثر من ذلك فليصلوا قياما
وركبانا)) . فقدم الوقت على حساب الاخلال بالواجبات كالركوع والسجود فدل هذا على أن الوقت لا يجوز التفريط فيه بأي حال وانه أوكد وأعلى الواجبات على الاطلاق
وقالوا تعارض في هذا المقام مصلحة و مفسدة
فلو أخرنا الصلاة لتحقق تعجيل السير ولم نتعطل بالنزول والاشتغال بالصلاة ولجعلنا هذا الوقت في السير لتحقيق مصلحة الوصول قبل العصر
لكن تحقيق هذه المصلحة سيجر الى وقوع مفسدة عظيمة وهي اخراج الصلاة عن وقتها
و معلوم أن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح فوجب ترك وتفويت مصلحة تعجيل السير لئلا تقع تلك المفسدة العظيمة
فسكت النبي عليه السلام وكان سكوته اقرارا لكلتا الطائفتين فكما أن كلامه وحي فكذلك سكوته عن أمر عظيم مثل هذا
وانما أراد أن يعلم أمته أدب الخلاف وأن الاختلاف واقع حادث في أمته في حياته وبعد وفاته عليه السلام
و هم اختلفوا وهو بين ظهرانيهم في هذه الحادثة بأقوالهم وانفصلوا بأجسادهم فطائفة نزلوا وصلوا وتخلفوا وطائفة تعجلوا و لم يصلوا وواصلوا السير ولم يلتق الجمعان الا في بني قريظة
ولم يسمع أحد من أحد كلمة سوء وتعالوا عن ذلك فما قال أحدهم للآخر أنتم أخرتم الصلاة وعصيتم أمر الله تعالى ولا رد أحدهم فقال بل أنتم من عصيتم أمر نبيكم وخالفتم نهيه حين نهاكم عن الصلاة الا في بني قريظة
فهم انتقلوا الى العمل وتركوا القيل والقال فكانوا كثيرا ما يعملون وقليلا ما يتكلمون وما سألوا النبي عليه السلام أي الفريقين خير عملا وأحسن مذهبا بل عملوا وأخلصوا وفوضوا الأمر لربهم
وكان أعظم حرصهم ومبلغ جهدهم هو كيف يصلون وكيف يخشعون وكيف يصومون ويقومون وكيف يصلحون نياتهم اذا تصدقوا أو صاموا أو صلوا وتهجدوا وما كان اشتغالهم أبدا كم عدد الركعات التي نصليها و لا أي شيء نخرجه في الصدقة ولم يشتغلوا الا باصلاح أنفسهم وتنقية سرائرهم وشغلهم وكفاهم النظر في عيوبهم عن الالتفات الى عيوب من سواهم
فارتفع بهم عملهم الصالح الى أعلى الدرجات وارتقوا أسمى المقامات ونالوا رضى رب البريات فكانوا بحق وصدق هم السابقون الأولون لم يسبقهم أحد من الناس وكانوا خير أمة أخرجت للناس فنعم القوم نحن اذا لحقنا بركابهم واقتفينا آثارهم و سرنا حيث ساروا ودرنا حيثما داروا ونزلنا أينما نزلوا ووقفنا حيث وقفوا وحيينا بما حيوا به ومتنا على ما ماتوا عليه فان فعلنا ذلك اننا اذا لمن المفلحين الفائزين وكنا نعم الخلف لخير السلف
فهذه كانت أخلاقهم السامية وخصالهم السامقة
فان كانوا هم قد شاهدوا وشهدوا التنزيل و رؤوا الرسول صلى الله عليه وسلم بأبصارهم و سمعوه وهو يتكلم بآذانهم وتلقوا عنه هذا الخطاب وغيره مشافهة بلا واسطة
فاختلفوا في فهمه وهو نص واحد وهو تكلم بألسنتهم و بلغتهم التي هم أعلم بحقائق ألفاظها ودقائق معانيها
فكيف بمن بعدهم وهم أبعد عن مصدر الوحي والتلقي وبينهم وبينه الوسائط فتكثر الزيادة والنقصان في الألفاظ ويقوى الوهم والايهام والتحريف والخطأ في النقل بل كثير من النصوص لم تصل الى من بعدهم لأن من قبلهم لم يكونوا يكتبون ويدونون بل كان اعتمادهم على ما في صدورهم ولم يكتب ويدون الا القليل مما عندهم والكثير من هذا القليل فيه الكذب والخطأ
و من بعدهم أقل فهما منهم وأشد اختلافا لأنهم اختلفوا في فهم كلامهم أيضا
لكن جعل الله تعالى برحمته و من بفضله على هذه الأمة فكان المجتهدون منها بين أمرين اثنين لا ثالث لهما
الظفر بالأجرين الكاملين لمن أصاب منهم
أو الرجوع بأجر واحد كاملا غير منقوص لمن لم يصب منهم والكل في خير وفضل من ذي الجلال والاكرام الواسع الفضل والانعام والحمد لله هو السلام ومنه السلام
المصدر... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|