07-15-2015, 11:22 AM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 377,285
|
|
(خ149) الفرع الثاني: أمثلة لتوحيد الجهاد صفوف المسلمين
المثال الأول: في غزوة بني المصطلق فقد اختلف أجير عمر بن الخطاب، واسمه جهجاه بن مسعود، وهو من المهاجرين وسنان بن وبر الجهني، وهو من الأنصار، فاقتتلا، وصرخ جهجاه: يا للمهاجرين، وصرخ سنان: يا للأنصار..
وكان عبد الله بن أبي رأس النفاق قد قال عندما بلغه ذلك: أوقد فعلوها... والله ما أعدنا وجلابيب قريش [لقب أطلقه المشركون على المسملين الذين هاجروا إذ كانوا يلتحفون بأزر غلاظ.. فلقبوا بها..] إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل..
فسمعها منه زيد بن أرقم، فبلغ رسول الله صَلى الله عليه وسلم فطلب منه عمر ابن الخطاب أن يأمر عباد بن بشر بقتله.. فقال صَلى الله عليه وسلم: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، لا ولكن أذن بالرحيل، فارتحل صَلى الله عليه وسلم بالناس في ساعة لم يكن يرتحل بهم فيها..
فقال له أسيد بن حضير يا نبي الله والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها، فقال له رسول الله صَلى الله عليه وسلم: أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ " قال: وأي صاحب يا رسول الله؟ قال: "عبد الله بن أبي" قال: وما قال؟ قال: (زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل)..
قال: فأنت يا رسول الله والله تخرجه منها إن شئت.. هو والله الذليل وأنت العزيز... ثم مشى رسول الله صَلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتي آذتهم الشمس.. ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياماً، وإنما فعل ذلك رسول الله صَلى الله عليه وسلم ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبدالله بن أبي..[السيرة النبوية لابن هشام (2/290-292) مع شيء من التصرف والاختصار.. وراجع تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/369) وكذا البداية والنهاية له (4/157) وأصل القصة في صحيح البخاري، برقم (4624) وصحيح مسلم، برقم (2584)].
لقد مشى الرسول صَلى الله عليه وسلم ليلا بأصحابه قريباً من أربع وعشرين ساعة، حتى أنهكهم التعب حتى إذا مست أجسادهم الأرض وقعوا نياماً، ليشغلهم عن حديث عبد الله ابن أبي الذي كان يخشى منه أن يوقع بينهم الخلاف والفرقة.
فيؤخذ من ذلك أن شغل المسلمين بالجهاد من أعظم ما يدفع عنهم الخلاف ويوحد صفوفهم. [قال إبراهيم القريبي في رسالته: غزوة بني المصطلق عن هذه القصة: (الحديث رجاله ثقات ولكنه مرسل وأورده ابن جرير الطبري من هذه الطريق نفسها.. وله شاهد عند ابن أبي حاتم من مرسل عروة بن الزبير وعمرو بن ثابت الأنصاري وهو مرسل جيد كما قال ابن حجر وهو أيضاً عند ابن أبي شيبة من مرسل عروة وحده.. وأصله في الصحيحين من حديث زيد بن أرقم وجابر بن عبد الله وبهذا يكون الحديث حسناً لغيره) أ. هـ. ص190-191 نسخة أهداها المؤلف لكاتب هذا البحث].
المثال الثاني: كان في سنة ثمان وخمسين وستمائة، حيث كان سلطان دمشق وحلب، وملك بلاد الكرك والشوبك في حرب مع سلطان ديار مصر الملك المظفر سيف الدين قطز.. وكانا عازمين مع أتباعهما على قتال أهل مصر وانتزاعها من قطز، وفي هذا الوقت تواترت الأخبار بقصد التتار بلاد الشام، وأنهم حاصروا حلب وافتتحوها وقتلوا أهلها وسبوا نساءهم وذراريهم وجعلوا أعزة أهلها أذلة، ثم زحفوا إلى دمشق فاستباحوا بها الحرمات وتعاون معهم النصارى ضد المسلمين..
وبلغ سلطان مصر أن التتار قد وصلوا إلى غزة، وفر الملك الناصر إلى مصر ثم تركها خوفاً من سلطانها لما بينهما من العداوة، وتحصن في الكرك حتى قبض عليه التتار وقتلوه.. ولما علم سلطان مصر أمْرَ التتار، بادرهم قبل أن يبادروه... فخرج في عساكره وقد اجتمعت الكلمة عليه... فكان اجتماعهم على عين جالوت يوم الجمعة الخامس والعشرون من رمضان، فاقتتلوا قتالاً عظيما فكانت النصرة ولله الحمد للإسلام وأهله فهزمهم المسلمون هزيمة هائلة...
وقد قاتل الملك المنصور صاحب حماة مع الملك المظفر قتالاً شديداً... واتبع الأمير ببيرس البندقداري وجماعة من الشجعان التتار يقتلونهم في كل مكان إلى أن وصلوا خلفهم إلى حلب.. وهرب مَن بدمشق منهم يوم الأحد السابع والعشرين من رمضان، فتبعهم المسلمون من دمشق يقتلون فيهم ويفكون الأسارى من أيديهم، وجاءت بذلك البشارة ولله الحمد على جبره إياهم بلطفه فجاوبتها دق البشائر من القلعة، وفرح المؤمنون بنصر الله فرحاً شديداً وأيد الله الإسلام وأهله تأييداً، وكبت الله النصارى واليهود والمنافقين وظهر دين الله وهم كارهون.. [البداية والنهاية لابن كثير (13/218-221) مع تصرف وتلخيص..].
تأمل كيف انقلب الأمر من تربص أهل الشام من المسلمين بأهل مصر منهم، وتربص أهل مصر بأهل الشام، حيث كان كل منهم يعد العدة للقضاء على الآخر، فلما فاجأهم ما يقتضي الجهاد في سبيل الله اجتمعوا كلهم لقتال عدوهم فكان النصر المؤزر.
المثال الثالث: كانت سنة اثنتين وسبعمائة من الهجرة، حيث أنزل التتار الرعب في قلوب المسلمين الذين تفرقت كلمتهم وضعفت نفوسهم، وكان ابن تيمية رحمه الله يحثهم على الاجتماع ويحضهم على القتال.. وعندما اشتد الخطب وعاث التتار فسادا، جمع الله الشمل وحقق الله به من النصر ما لم يكن الناس يظنون..
قال ابن كثير رحمه الله: "ووصل التتار إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك الأراضي فساداً، وقلق الناس قلقاً عظيما، وخافوا خوفاً شديداً، واختبط البلد لتأخر قدوم السلطان ببقية الجيش.. وقال الناس: لا طاقة لجيش الشام مع هؤلاء المصريين بلقاء التتار لكثرتهم، وإنما سبيلهم أن يتأخروا عنهم مرحلة مرحلة، وتحدث الناس بالأراجيف.. فاجتمع الأمراء يوم الأحد المذكور بالميدان، وتحالفوا على لقاء العدو وشجعوا أنفسهم، ونودي بالبلد ألا يرحل أحد منه، فسكن الناس وجلس القضاة بالجامع وحلفوا جماعة من الفقهاء والعامة على القتال..
وتوجه الشيخ تقي الدين ابن تيمية إلى العسكر الواصل من حماة، فاجتمع بهم في القطيفة فأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء والناس من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحلفوا معهم..." إلى أن قال: "فلما كان بعد الظهر قرئت بطاقة بالجامع تتضمن أن الساعة الثانية من نهار السبت هذا، اجتمعت الجيوش الشامية والمصرية مع السلطان في مرج الصفر وفيها طلب الدعاء من الناس والأمر بحفظ القلعة والتحرز على الأسوار..
فدعا الناس في المآذن والبلد وانقضى النهار، وكان يوماً مزعجاً هائلاً وأصبح الناس يوم الأحد يتحدثون بكسر التتر، وصارت كسرة التتار تقوى وتتزايد قليلاً حتى اتضحت جملة، ولكن الناس لما عندهم من شدة الخوف وكثرة التتر لا يصدقون. فلما كان بعد الظهر قرئ كتاب السلطان إلى متولي القلعة يخبر فيه باجتماع الجيش ظهر يوم السبت بشقحب وبالكسوة..
ثم جاءت بطاقة بعد العصر من نائب السلطان جمال الدين آقوش الأفرم، إلى نائب القلعة، مضمونها أن الوقعة كانت من العصر يوم السبت إلى الساعة الثانية يوم الأحد، وأن السيف كان يعمل في رقاب التتر ليلاً ونهاراً، وأنهم هربوا وفروا واعتصموا بالجبال والتلال وأنه لم يسلم منهم إلا القليل.. فأمسى الناس وقد استقرت خواطرهم، وتباشروا لهذا الفتح العظيم والنصر المبارك، ودقت البشائر بالقلعة من أول النهار المذكور". [البداية والنهاية (14/23-25)].
تأمل قول الناس من أهل الشام: لا طاقة لجيش الشام مع هؤلاء المصريين بلقاء التتار لكثرتهم، الذي يدل على الخلاف والفرقة بين الشاميين والمصريين، ولكن الخطر الذي لا يدفعه إلا الجهاد، جعلهم يجتمعون فحصل الاجتماع والتحالف..
وذهب ابن تيمية للجيش الحموي فأخبره بما جرى من الاجتماع وحثه على الكون معهم فأجاب وحلف معهم. ولولا الجهاد لما كان هذا الاجتماع السريع، فالجهاد في سبيل الله يوحد صفوف المسلمين وبذلك ينتصرون على عدوهم.
ويجب أن يعلم أن الذين يقاتلون عدوهم، مع تفرقهم ونزاعهم فيما بينهم، وعدم اجتماعهم على الحق، فإن قتالهم ذلك أو قتال بعضهم، ليس جهادا في سبيل الله، بل هو قتال في سبيل أغراض أخرى....
المصدر... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|