07-02-2015, 05:33 AM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 377,285
|
|
(137)الجهاد في سبيل الله-المطلب الثالث: وحدة القيادة
لقد كانت قيادة المسلمين عندما جاء الإسلام واحدة - كعقيدتهم الواحدة، ومنهجهم الواحد - وكان الرسول صَلى الله عليه وسلم هو قائدهم فينزل عليه الوحي، فيبلغهم إياه ويوجههم به في أمور دينهم ودنياهم.. كان إمامهم في الصلاة ومعلمهم في المسجد، وقائدهم الأعلى في الغزوات وعاقد ألويتهم في السرايا والبعوث، وباعثهم للدعوة وموليهم في الإمارات يأمرهم بالوحي فيأتمرون، وينهاهم فينتهون..
فإذا كان في أمور اجتهادية للرأي فيها مجال، جعل الأمر شورى بينهم بأمر من ربه، يقنعهم بالحجة فيقتنعون أو يرون الرأي - وليس فيه نص من ربه يخالف رأيهم - فينزل عن رأيه لرأي أصحابه.. وقد يشير عليهم بأمر من أمور الدنيا - كترك تأبير النخل - فيشكون إليه عدم تمامه فيقول لهم: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) كما روى ذلك عنه أنس رضيالله عنه . [صحيح مسلم(2363)]
وهكذا كان صَلى الله عليه وسلم هو القاضي والمفتي وقاسم المال قيادة واحدة لأمة واحدة، وعندما توفي صَلى الله عليه وسلم انتقلت القيادة إلى خلفائه الراشدين، فكانوا مثله في كل شيء ما عدا الرسالة التي انقطعت بموته صَلى الله عليه وسلم..
وليس معنى هذا أن يكون قائد الأمة الإسلامية، متفردا بوظائف أمته، قائما بها وحده، وإنما المراد أن يكون قائما فيهم بأمر الله، حاكما بكتابه، سائرا على منهجه، له أعوانه ووزراؤه وقضاته وجباته، ولكنهم جميعا لا يخرجون عن أمر الله ورسوله صَلى الله عليه وسلم.
وقد أكمل الله دينه بذلك، فكان الخليفة كذلك القائد في الحرب أو عاقد ألويتها وباعث غزاتها ومولي أمراءها أو أمراء الجهات، وكان القاضي والمفتي - وإن استعان بغيره في كل ذلك، ولكن جهة الأمر والنهي واحدة مقيدة بما في كتاب الله وسنة رسوله.. ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.. فكان الخليفة ينفذ حكم الله الذي فيه نص ويعقد مجالس شورى فيما لا نص فيه ولم تظهر المصلحة في الأخذ بأحد وجوهه فهو كبير ولاة الأمر، وولاة الأمر هم الخلفاء وذوو الرأي والعلم من الأمة، وكان الخلفاء قمة في العلم والرأي فيهم
ولم يكونوا محيطين بما عند الأمة كلها، ولذلك كانوا يستفتون من يظنون أن عنده ما ليس عندهم من كتاب الله وسنة رسوله نصاً أو فقهاً فيه، ويستشيرون ذوي الرأي فيما لا نص فيه، أو فيه نص ولكن لا يظهرمنه صفة تطبيق الحكم أو تنفيذه، هكذا كان الخلفاء رضِي الله عنهم.
وكانت وحدة الأمة في هذا الوقت أرقى وحدة شهدتها البشرية على وجه الأرض تحت قيادة غير معصومة - عصمة الرسل عليهم السلام - وغير متعددة، على الرغم من سعة رقعة الأرض التي رفرفت عليها راية الإسلام وتعدد الأجناس البشرية التي كانت مختلفة العادات والتقاليد والأنظمة قبل الإسلام.
وما ذلك إلا لوحدة القيادة، ثم وحدة التوجيه تبعاً لذلك، وصدور توجيهات تلك القيادة عن المنهج الرباني الذي جعل تلك الأجناس البشرية ترضى بتلك القيادة وتجتمع تحت راية الخلافة الإسلامية الراشدة.
وعندما بدأت القيادة تتعدد في أول العهد الملكي - بعد الخلافة الراشدة - حيث وجدت قيادة سياسية عسكرية يدير دفتها الملوك والأمراء، وهي السلطة التنفيذية التي بيدها القوة، وقيادة دينية روحية يتولاها علماء المسلمين.. من هنا اختلفت التوجيهات: توجيهات تصدر من الملوك والأمراء، وأخرى تصدر من العلماء..
ولم يكن في أول الأمر الخطر واضحاً في هذا التعدد، لأن الملوك والأمراء لم يكونوا يقفون في وجه حكم الله ومبادىء دينه، بل كانوا يتولون شؤون السياسة والحرب بما لا يتصادم مع توجيهات العلماء - في الجملة - ولكن الهوة بعد ذلك اتسعت عندما لم يلق الملوك والأمراء لتوجيهات العلماء وللفقهاء بالاً..
بل أخذوا ينفذون ما يرون ولو خالفوا العلماء، فانصدع صف المسلمين إلى ملوك وأمراء ومن وازرهم وسار في ركابهم، منفذاً رغباتهم ومرضياً أهواءهم، وعلماء وفقهاء معهم طلبة العلم الذين يتلقون عنهم ويعملون بتوجيهاتهم، فحصل بذلك ضرر عظيم ازداد اتساعاً على مر الزمن، حتى انفرط عقد المسلمين بسقوط آخر ملك واحد كان يسمى الخليفة – تجاوزاً - في أول القرن الرابع عشر الهجري..
وبذلك فقد المسلمون القيادة السياسية الواحدة أيضاً، فكانت ظلمات بعضها فوق بعض إذ أصبح لكل شعب قائد، وفي كل شعب عدد من الأحزاب، وفي كل حزب عدة خلايا مختلفة، كما هو مشاهد اليوم في كل بلاد المسلمين.
وإذا أراد المسلمون - ولا سيما دعاة الإصلاح والجهاد - أن يعيدوا للمسلمين وحدتهم السليبة، فعليهم أن يسعوا سعياً حثيثا إلى إعادة وحدة القيادة تدريجياً حتى تعاد الخلافة الإسلامية، وإلا فإن الفرقة والخلاف يزدادان اتساعاً.
قال المودودي رحمه الله: "إن أول ضرر من الأضرار الرئيسية التي نكبت بها الأمة الإسلامية من جراء النظام الملكي، هو أن انقسمت قيادة الأمة المسلمة إلى قسمين بعد أن كانت هذه القيادة في عهد النبي صَلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه الراشدين رضي الله عنهم، موحدة تستقطب جميع نواحي الحياة.. الروحية والعلمية والفكرية والسياسية حول محور واحد.. بحيث كانت التوجيهات السياسية والتدابير القضائية والتعليمات الإدارية والتنظيمات العسكرية وشؤون الحرب أو الصلح تنطلق من مصدر بعينه.. ونفس القادة الذين كانوا يوجهون هذه النواحي، هم الذين كانوا في الوقت نفسه قادة المسلمين في إصلاح الاختلاف، وقادتهم في الفكر والعلم وقادتهم في التربية الروحية.
إن هذه القيادة بجميع نواحيها كانت تدور حول محور بعينه، إلا أنه لما نجم قرن الملكية اعترى القيادة الانقسام وانشقت إلى شقين، ففيما يتعلق بالشؤون السياسية استأثر به الحكام، وفيما يرجع إلى النواحي الخلقية والفكرية والروحية انتقلت القيادة إلى رجال العلم والفقه والتصوف، أصبح الفقهاء المسلمين وعلماؤهم روادهم في الشؤون الروحية والخلقية والدينية، وأصبح الملوك والأمراء قادتهم في الشؤون السياسية، وكان هذا الانقسام في حد ذاته فتنة مدمرة كان من المحتوم أن تعكس آثارها السيئة في المجتمع.. ثم زادت الطين بلة طبيعة القيادة السياسية، إذ من مقتضاها الطبيعي أن تقحم نفسها في كل شيء من شؤون الحياة، وتدس أنفها في كل أمر من أمورها.
وانطلاقاً من هذه الطبيعة هبت القيادة السياسية تفرض سلطانها على كلتا الناحيتين من الناحية الدينية والخلقية، في الوقت الذي كان فيه أصحاب العلم والفقه والتصوف لم يكونوا ليرضوا - وما كان ينبغي لهم أن يرضوا بحال من الأحوال - تدخل القيادة السياسية في شؤون الدين والأخلاق، كيلا يشوه وجه الدين ولا يغير الفكر الإسلامي ولا يمسخ المبادئ الخلقية، فنجم عن كل ذلك التباعد في هاتين القيادتين، واتسع الصدع بينهما ثم شرع التناحر والتصارع بينهما بدلاً من التعاون والتلاحم، ولا نزال نشاهد هذه الظاهرة الغريبة على قدم وساق في تاريخ الإسلام المعاصر". [الإسلام اليوم ص29-30 من مطبوعات الجماعة الإسلامية بباكستان].
هذه أهم أصول وحدة المسلمين التي إذا حافظ عليها المسلمون وسعوا إلى إعادتها، اتحدوا واستقامت وحدتهم على ساقها، وإن فرطوا فيها أو في بعضها كان التفرق والخلاف والشقاق حليفهم.
وهي تمثل القاعدة الإسلامية التي تنطلق منها جميع النظم الإسلامية من أصول الدين وفروعه، وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وإذا كان محمد صَلى الله عليه وسلم قائداً برسالة، فإن خلفاءه قادة بشريعته فقط، وإلا فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
المصدر... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|