ركوب ظهر الطبيعة
أ. حنافي جواد
اعتدتُ ركوبَ الطبيعة ليلاً، عند نزول الظلام، وآن نزولُ النَّاس لبيوتهم، أختار الليلَ كيلا أَنظر وأُنظر؛ ولأني محبٌّ لليل؛ هدوئِه وسكينتِه وجمالِ محياه ورشاقته، أتَمَتَّع بجمالِ الأزهار واخضرار الأشجار وأصوات الليل، التي لا يدركُها إلا ذو دربةٍ وممارسة ورياضة، يسهل اتصالك بعالم السكينةِ ليلاً لقلةِ المتصلين، فجلُّهم يؤولون لجحورِهم ليعانقوا بناتِ النوم الأبكار، وقتئذ تتاحُ الفرص لمتصيديها من محبي الطبيعةِ من نظائري.
بينا أنا في تطوافي لقيتُ أحدًا ممن كنت أعرفُهم أيام طفولتي ممن شاركوني الدرسَ في "مدرسة الحسن اليوسي"، فسلمتُ عليه سلامًا، وسألته عن حالِه وأحواله وصحته وأمور أخرى، فأجابني أنَّه بخير وعلى خيرٍ، وما ينقصه شيء، وسألني هو كذلك عن حالي وأحوالي ومسائلي، وما وراء السؤال إلا السؤال، والعادة التي دأبنا عليها من هذا القيل والقال وكثرة السؤال.
عرفتُه في تلك الأيامِ منضبطًا متزنًا مجتهدًا، همه المقعد المقيم الدراسة والتحصيل والاجتهاد فيها، لم أك أعرفُه مدخنًا ولا سكِّيرًا، ولم أك أتصور أنه سيكون من النوعِ المذكور، ومن مطاردي الفتيات.
وعند لقياه عَلَّمني حدسي - وما يُخطئ إلا أحيانًا - وما أدركتُ منه في مُدَيْدةٍ وجيزة أنه متسخُ الرئة، والتدخينُ يجرُّ معه ذيولَه، فهل إنجلترا هي السبب؟
سفره لإنجلترا كان مِن الأسبابِ، لكنَّها ليستْ كل الأسباب، ساهم الوضعُ المادي الجيد بحظِّه، وساهمت البيئةُ الإنجليزية ومحيطها بنصيبها، ساهم زملاءُ العملِ بنصيبهم، كما ساهمت تركيبتُه الداخلية في الأمرِ بأَسْهُم، وساهمت الطبيعةُ البشرية الميالة للانحدار بأجزاء.
الحديدُ يصدأ، ولا يفل الحديد إلا الحديد، والحجر يتفتَّتُ والإنسان ضعيف، والسُّلط المحيطة بجزيرةِ الإنسان عظيمة، ولم أر قط أقوى من سلطةِ المحيط، يعجنُ النَّاس عجنًا فيخرجهم في هيئةٍ واحدة في الأصول، وحتى في بعضِ الفُروع.
ما كنتُ أعرف أنَّ للرجلِ منطلقات صلبة يستندُ لها ويعتمدها في التقوى والدِّفاع عن بيضتِه، كان قطعة من عجينِ المجتمع، ما كان يميزه عن غيرِه إلا تفوُّقه في المدرسة، هذا التفوُّق النابع من رغبةٍ جامحة كانت في أمِّه ليتألَّق، فبذلت من أجلِه الجهودَ كل الجهود فتألَّقَ وتعلق.
وموقعُ بيتهم كان مُؤهلاً من مؤهلات التفوُّق، فلم يك يختلطُ بأمثالي إلا لمامًا، ولم تتح لنا الفرصة للقياه إلا أحيانًا، فتبيَّن لنا أنَّه كان خاضعًا لقانونِ الزمن المملى عليه من وزارةِ البيت الدَّاخلية!
المالُ يلد المال، لولا حالة الأسرةِ المادية الجيدة لما بلغ السيدُ المذكور ما بلغَه، فأبناءُ الفقراءِ لا تتاح لهم أمثال تلك الفُرص، لو كان الفقرُ رجلاً لانتقم منه عمرُ ولكفانا شرَّهُ ورزاياه، لكن أسفًَا أسفًا، لماذا لم تقتل الفقرَ يا فاروق؟
يا للميسورين والأغنياء لأبناء الفقراء، لا تضيعوا حقوقَهم ولا تدوسوا على قلوبِهم بما في جيوبِكم وما بين جدران البنوك من أموالِكم.
إذا نصبنا ميزانَ الدَّارِ الآخرة، وما أدراك ما هو! لنزن الحالة المذكورة؛ فإنَّ الأمورَ ستختلفُ والوضعيات ستنقلب، وستسفر المعايير عن صبح الحقيقة أبيض أبلج بيِّن البلج غير لجلج.
أعْمِل ميزانَ الدار الآخرة كلما اختلطتْ عليك الأمورُ وجاءتك زَرافات ووُحْدَانا، كلما أدركتَ أنك في خطرٍ أو مهدد، أو مصاب بمرضِ حبِّ الدنيا، أو مغرور، أو نحوه من الشُّرور.
آنذاك سيطمئنُّ صدرُك، ويسكنُ روعك، وتنجلي لك الأمورُ كما هي في الحقيقة، فمن سلك المهْيَع أمنَ العثارَ، ومن زاغ عنه فسقًا فإنه مصابٌ في أناملِ رجليه وقدمه وساقه وبطنه إلى فرع رأسه، والرأس وما حوى والبطن وما لوى.
أقولُ هذا الذي تقرؤون، والحمدُ لله ربِّ العالمين. وقوموا إلى ما يفيدكم رحمكم الله.
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك