منزلة العبودية بين وعديْن
عصام زيدان
يعيش الإنسان في حياته الدنيا بين وعدين اثنين، وعد الله -عز وجل- الرحمن الرحيم ووعد الشيطان الملعون الرجيم.
وتعددت تلك الصور التي عرضها الحق تبارك وتعالي في كتابه الكريم لوعد الشيطان وما يسببه للإنسان من حسره في حياته وبعد مماته، فتسلبه تلك الوعود بهجة الحياة الدنيا والظفر يوم الحساب، ووعد الله - عز وجل - الذي يفتح على الإنسان أبوابا من الخيرات التي بها ينعم في دنياه هادئ البال مطمئن النفس إلى أن يأتي يوم الوفاء.. يوم الحساب.
وشتان شتان بين وعد يأتي من قبل قيوم السماوات والأرض الرحيم بعباده، والذي هو ارحم بهم من الأم على ولدها كما أخبر بذلك الصادق المصدوق في الحديث الذي رواه البخاري عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه- قال: قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- سبي، فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها تسقي، إذا وجدت صبيا في السبي أخذته، فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أترون هذه طارحة ولدها في النار)) قلنا: لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال: ((لله أرحم بعباده من هذه بولدها)) (البخاري: 5999) ووعد الشيطان الذي هو لآدم وذريته عدو منذ بدء الخليقة، قال تعالي: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (فاطر: 6) وهل يأتي وعد بخير من شيطان توعد قبل أن يعد بغواية الجنس البشري وصرفه عن طريق الهداية وسبل الرشاد: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا) (الإسراء: 62).
تعددت، إذن، وعود الشيطان وتنوعت في معركته مع الإنسان في الحياة الدنيا، ومن ذلك ما جاء في قوله تعالي: (وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ*فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ) (البقرة: 35، 34).
يقول السعدي في تفسيره: "لما خلق الله آدم وفضله; أتم نعمته عليه; بأن خلق منه زوجة ليسكن إليها; ويستأنس بها; وأمرهما بسكنى الجنة; والأكل منها رغداً، أي: واسعاً هنيئاً، "حَيْثُ شِئْتُمَا" أي: من أصناف الثمار والفواكه، وقال الله له: (إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى) (وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) فلم يزل عدوهما يوسوس لهما ويزين لهما تناول ما نهيا عنه حتى أزلهما، أي: حملهما على الزلل بتزيينه (وَقَاسَمَهُمَا) بالله (إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) فاغترا به وأطاعاه، فأخرجهما مما كانا فيه من النعيم والرغد، وأهبطوا إلى دار التعب والنصب والمجاهدة.
وها هو وعد ثان من الشيطان المتربص، يقول الله -تبارك وتعالى- عنه: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 268) قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن للشيطان لَلَمّة بابن آدم، وللمَلك لَمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك فليعلَمْ أنه من الله، فَلْيحمَد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان)) ثم قرأ: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً) (صحيح الترمذي: 2988)
يقول ابن كثير: ومعنى قوله تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) أي: يخوفكم الفقر، لتمسكوا ما بأيديكم فلا تنفقوه في مرضاة الله (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) أي: مع نهيه إياكم عن الإنفاق خشية الإملاق، يأمركم بالمعاصي والمآثم والمحارم ومخالفة الخَلاق، قال الله تعالى: (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ) أي: في مقابلة ما أمركم الشيطان بالفحشاء (وَفَضْلا) أي: في مقابلة ما خوفكم الشيطان من الفقر (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
والوعد الثالث يقول الله -عز وجل- عنه: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ) (الأنفال: 48).
يقول ابن كثير: حسَّن لهم -لعنه الله- ما جاؤوا له وما هموا به، وأطمعهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس، ونفى عنهم الخشية من أن يؤتوا في ديارهم من عدوهم بني بكر فقال: أنا جار لكم، وذلك أنه تبدى لهم في صورة سُرَاقة بن مالك بن جُعْشُم، سيد بني مُدْلج، كبير تلك الناحية، وكل ذلك منه، كما قال الله تعالى عنه: (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا).
وفي وعد آخر من وعود الشيطان الزائفة الخادعة يقول الحق في كتابه الكريم (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) (الحشر: 16) يقول السعدي: أي: زين له الكفر وحسنه ودعاه إليه، فلما اغتر به وكفر، وحصل له الشقاء، لم ينفعه الشيطان، الذي تولاه ودعاه إلى ما دعاه إليه، بل تبرأ منه و(قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) أي: ليس لي قدرة على دفع العذاب عنك، ولست بمغن عنك مثقال ذرة من الخير.
وفي مقابل هذه الوعود الشيطانية تأتي الوعود الربانية للإنسان دافعة العبد المؤمن لكسب الحسنات والمسارعة في الخيرات، فهذا وعد بالحسنى لكل من جاهد وأمن مع سبق المجاهدين للقاعدين غير أولي الضرر، قال تعالي: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) (النساء: 95).
ويأتي من بعده وعده آخر من قبل الرب جل في علاه بالمغفرة والأجر العظيم لمن أطاع وآمن واتبع ذلك بالعمل الصالح (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (لمائدة: 9)
ووعد ثالث بالتمكين والاستخلاف وتحصيل الأمن إن حققوا معنى العبودية، يقول الله -عز وجل- بشأنه: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) (النور: 55).
وعود من قبل الله حفل بها كتابه الكريم شهدت كل المخلوقات على تحققها واعترفت (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ) (الأعراف: 44) (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ) (إبراهيم: 22) (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) (يس: 52) وشهد الله في علاه على صدق وعده لعبادة وخلقه فقال -عز وجل-: (وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) (النساء: 122)
ثم يصف الحق تبارك وتعالى وعد الشيطان وتغريره بالعباد محذرا إياهم قائلاً: (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا) (النساء: 120).
قال البغوي في معالم التنزيل: فوعدُهٌ وتمنيتُهُ ما يوقع في قلب الإنسان من طول العمر ونيل الدنيا، وقد يكون بالتخويف بالفقر فيمنعه من الإنفاق وصلة الرحم، كما قال الله تعالى: (الشيطانُ يعِدُكُم الفقرَ"(البقرة: 268) ويُمنّيهم بأنْ لا بعثَ ولا جنَّةَ ولا نار "وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا) أي: باطلاً.
وقال السعدي في تفسيره: يعد الشيطان من يسعى في إضلالهم، والوعد يشمل حتى الوعيد كما قال تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) فإنه يعدهم إذا أنفقوا في سبيل الله افتقروا، ويخوفهم إذا جاهدوا بالقتل وغيره، كما قال تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) الآية، ويخوفهم عند إيثار مرضاة الله بكل ما يمكن وما لا يمكن مما يدخله في عقولهم حتى يكسلوا عن فعل الخير، وكذلك يمنيهم الأماني الباطلة التي هي عند التحقيق كالسراب الذي لا حقيقة له.
وفي سورة الفرقان وصف الحق تبارك وتعالي وعد الشيطان فقال: (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا) (الفرقان: 29) يقول السعدي: يزين له الباطل ويقبح له الحق، ويعده الأماني ثم يتخلى عنه ويتبرأ منه.
وساق الحق تبارك وتعالي على لسان إبليس اللعين وصفه لوعده لبني آدم في مقابل وعد الحق تبارك وتعالي فقال: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) (إبراهيم: 22) يخبر تعالى، كما يقول ابن كثير، عما خطب به إبليس لعنه الله أتباعه، بعدما قضى الله بين عباده، فأدخل المؤمنين الجنات، وأسكن الكافرين الدركات، فقام فيهم إبليس حينئذ خطيبا ليزيدهم حزنا إلى حزنهم وغَبنا إلى غبْنهم، وحسرة إلى حسرتهم، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ) أي: على ألسنة رسله، ووعدكم في إتباعهم النجاة والسلامة، وكان وعدًا حقا، وخبرا صدقا، وأما أنا فوعدتكم وأخلفتكم، كما قال الله تعالى: (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا) ثم قال: (وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ) أي: ما كان لي عليكم فيما دعوتكم إليه من دليل ولا حجة على صدق ما وعدتكم به (إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) بمجرد ذلك، هذا وقد أقامت عليكم الرسل الحجج والأدلة الصحيحة على صدق ما جاءوكم به، فخالفتموهم فصرتم إلى ما أنتم فيه (فَلا تَلُومُونِي) اليوم (وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) فإن الذنب لكم، لكونكم خالفتم الحجج واتبعتموني بمجرد ما دعوتكم إلى الباطل (مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) أي: بنافعكم ومنقذكم ومخلصكم مما أنتم فيه (وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) أي: بنافعي بإنقاذي مما أنا فيه من العذاب والنكال.
فهذا وعد الله وذاك وعد الشيطان فلينظر العبد أي الوعدين هو أوثق وإلى أيهما يطمئن قلبه وتسكن نفسه، ثم ينتظر في الآخرة الجزاء على الاختيار.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك