12-12-2022, 10:17 AM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 376,241
|
|
معيار العمل بسد الذرائع
معيار العمل بسد الذرائع
د. نعمان مبارك جغيم
ملخص البحث
يهدف هذا البحث إلى تحرير مسألة سد الذرائع وتحديد ضابط العمل بها، وهو يسلك منهجا يختلف عن الطريقة النمطية لتناول هذا الموضوع، القائمة على عرض رأي القائلين بسدّ الذرائع، ورأي الرافضين للعمل بسدّ الذرائع، ثم مساندة فريق منهما، والرد على الفريق المخالف، وبيان أن الفريق المخالف قد عمل بما هو في حقيقته من باب سدّ الذرائع، ولكن دون تمسيته سدًّا للذرائع. وقد خلص البحث إلى أنه ينبغي العمل بسدّ الذرائع في مقام الإرشاد والفتوى؛ بمعنى توجيه الناس إلى تجنُّب التذرُّع بما هو مباح في أصله إلى ارتكاب المحظورات الشرعية وإسقاط الحقوق. كما أنه يجوز للسلطة الحاكمة أن تُصدر من الأوامر والقوانين ما يمنع الناس من التعسُّف في استعمال الحق بقصد الإضرار بالآخرين، أو التذرُّع بالمباحات للتوصُّل إلى المحرمات، وذلك بقصد المحافظة على صلاح المجتمع. أما في مجال القضاء، فإنه لا يُعمل بمبدأ سدّ الذرائع؛ لأن القضاء يكون بالأدلة الظاهرة، لا بالأمور الباطنة أو الظنون والاحتمالات، ولا تزر وازرة وزر أخرى، ولا يُبْطَلُ تصرفُ شخص بسبب القصد السيء لأشخاص آخرين مهما كثروا.
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
تُعدُّ مسألة سدّ الذرائع من الموضوعات التي كثرت الكتابات فيها؛ فهي حاضرة في كتب أصول الفقه قديمها وحديثها، وكُتِبت فيها كتب وبحوث مستقلة كثيرة جدا، وهي على الرغم من ذلك ما زالت في حاجة إلى مزيد من البحث، ولكن بطريقة مختلفة عن تلك الطريقة الشائعة في دراستها.
الدراسات الموجودة حول الموضوع تدور حول عرض رأي القائلين بسدّ الذرائع، ورأي الرافضين للعمل بسدّ الذرائع، ثم مساندة فريق منهما، والرد على الفريق المخالف، وبيان أن الفريق المخالف قد عمل بما هو في حقيقته من باب سدّ الذرائع، ولكن دون تمسيته سدًّا للذرائع.
الهدف من هذه الدراسة الخروج من هذه النمطية في البحث، وتجاوزها إلى وضع معيار ضابط للعمل بالذرائع من خلال دراسة موضوعية للأدلة التي يوردها الطرفان المختلفان دون ترجيح هذا الطرف أو ذاك، ولكن يتم توجيه كل رأي إلى ما يناسبه من جوانب المعيار الضابط الذي توصل إليه الباحث.
وبناء على هذا الهدف، فإن الباحث يركز على تحرير مسألة سد الذرائع وتحديد ضابط العمل بها، ويتجاوز المسائل الواضحة التي استوفت حقها من البحث، ويعرض عن المسائل التي لا تخدم هذا الهدف؛ لأن بعضها ربما يكون من باب الاستطراد أو التخليط. ولن يعتني الباحث بالإطالة في التعريفات والتقسيمات والأمثلة والإكثار من ذكر المراجع. وسأبتعد عن الحشو والاستطراد، واقتصر في عرض أدلة الفريقين على أهمها.
إن هذا البحث يسجِّل خلاصة ما توصل إليه الباحث، ولذلك فإن ما أذكره من المراجع قليل جدا، يقتصر على النصوص التي أوردها في هذه الخلاصة. وخير الكلام ما قلّ ودلّ.
وقد قسمته إلى أربعة مطالب: المطلب الأول: مفهوم سَدّ الذرائع، المطلب الثاني: موقف العلماء من سَدّ الذرائع، المطلب الثالث: المعيار الضابط للعمل بسد الذرائع، المطلب الرابع: مناقشة أصحاب المذاهب في سدّ الذرائع.
المطلب الأول: مفهوم سَدّ الذرائع
الذريعة في اللغة
الذريعة في اللغة هي الوسيلة. يُقال: تذرّع فلان بذريعة، أي توسَّل، والجمع ذرائع. والذريعة السبب إلى الشيء. يقال: فلان ذريعتي إليك، أي سببي ووُصلتي الذي أتسبَّب به إليك.[1] وبناء على المعنى اللغوي للذريعة يكون المعنى العام لها هو ما يُتَوَسَّل به إلى شيء، بغض النظر عن كون الوسيلة أو المتوسَّل إليه خيرا أو شرا، فيدخل في ذلك: التوسُّل بالمحرَّم إلى المحرَّم، والتوسُّل بالمحرَّم إلى المشروع، والتوسُّل بالمشروع إلى المشروع، والتوسُّل بالمشروع إلى المحرَّم.
الذريعة في الاصطلاح
المعنى المراد للعلماء عند حديثهم عن سَدّ الذرائع هو: الوسيلة التي أصلُها الإباحة، ولكن فعلها قد يؤدي إلى محظور شرعي. يقول ابن عاشور عن سَدّ الذرائع: "هذا المركَّب لَقَبٌ في اصطلاح الفقهاء لإبطال الأعمال التي تؤول إلى فساد مُعتبر، وهي في ذاتها لا مفسدة فيها."[2]
وبهذا يكون سد الذرائع بمعنى: منعُ الشخص من فعل الأشياء التي أصلُها مباح، ولكن يكون مآل فعلها إلى إيقاع مفسدة وارتكاب محظور شرعي. أما الوسائل التي نص الشارع على تحريمها، إما لكونها مفسدة في ذاتها أو لكونها تفضي إلى مفاسد معتبرة، فهي -وإن كان يصح في اللغة تسميتها ذريعة إلى الفساد، واعتبار تحريم الشارع لها سدا للذريعة- إلا أنه لما كان الشارع قد حكم عليها بالتحريم، فإن عملنا فيها هو تنفيذ ما حكم به الشارع، ولا يُعدُّ عملُنا فيها من باب سدّ الذريعة؛ لأن الشارع قد سدَّها وانتهى أمرها. وإنما الحديث في ما يمكن أن يمنعه المجتهد أو الحاكم من المباحات لكونه ذريعة إلى فعل المحظور شرعا، فهذا هو الذي يُصطلح عليه "سَدّ الذريعة".
ولا معنى للحديث عن فتح الذرائع؛ لأن الأصل في الذرائع أنها مفتوحة، والحديث عن فتحها مجرد تحصيل حاصل. وإذا كان الذين يتحدثون عن فتح الذرائع يشيرون إلى الرخص الشرعية في حالات الضرورة، فهذا قد فتحه الشارع ونصَّ على الترخيص فيه، وما يقوم به الإنسان -سواء أكان مجتهدا أم حاكما أم مكلَّفا- هو مجرد تطبيقٍ للحكم الشرعي لا فتحا للذرائع. هذا فضلا عن أن اصطلاح العلماء قد جرى على تسمية ذلك رخصة لا فتحا للذريعة، وإن كان لغة يصح تسميته فتحا للذريعة، إلا أن احترام الاصطلاحات أحرى بقطع طريق اللبس والتخليط في الكتابة والتأليف.
العلاقة بين الذرائع والحيل
بين الاحتيال والتذرع تقارب في المعنى اللغوي، فالتذرُّع إلى الشيء التوصل إليه بوسيلة من الوسائل، والاحتيال التوصُّل إلى الشيء بطريق فيه حِذْق ودقة تصرف.
والفرق بينهما في الاستعمال الاصطلاحي أن سَدّ الذرائع يُنظَر فيه إلى جانب الأثر المترتب على الفعل بغض النظر عن قصد المكلَّف، فتجري الفتوى أو الحكم بالمنع من تصرف من التصرفات لكونه ذريعة إلى فعل المحظور. أما التحيُّل فيُنظَر إليه من جانب قصد الفاعل، حيث يقصد المكلَّف التحيُّل على إسقاط الأحكام الشرعية أو مضادَّة مقاصدها بأفعال ظاهرها الإباحة، فنقول فلان تحيَّل بكذا إلى كذا، وهذا الفعل حيلة لارتكاب محظور أو إسقاط واجب.
ويفصَّل محمد الطاهر ابن عاشور الفروق بين الذرائع والحيل في ثلاثة أوجه: أولها: العموم والخصوص، حيث إن الذرائع أعمُّ من الحيل. والثاني: القصد، حيث إنه في الحيل يكون الشخص قاصدا إلى التخلُّص من حقّ شرعي عليه بصورة ظاهرها المشروعية، أما الذرائع فهي ما يفضي إلى فساد، سواء قصد الناس بفعلها الإفضاء إلى الفساد أم لم يقصدوا. والثالث: أن الحيل -بمعناها الاصطلاحي- لا تكون إلا مُبطِلة لمقصد شرعي، أما الذرائع فقد تكون مُبطِلة لمقصد الشارع وقد لا تكون مُبطِلة.[3]
المطلب الثاني: موقف العلماء من سَدّ الذرائع
اختلفت أقوال العلماء في العمل بسدّ الذرائع بين قائل به وبين مُنْكِرٍ له. وقد حاول القرافي تلخيص موقف العلماء من سدّ الذرائع بقوله: "وهي ثلاثة أقسام: منها ما أجمع الناس على سَدِّه، ومنها ما أجمعوا على عدم سَدِّه، ومنها ما اختلفوا فيه. فالـمُجْمَع على عدم سَدِّه كالمنع من زراعة العنب خشية الخمر، والتجاور في البيوت لأجل الزنى، فلم يُمْنَع شيءٌ من ذلك وإن كان وسيلة للمحرَّم. وما أُجْمِع على سَدِّه كالمنع من سَبِّ الأصنام عند من يُعْلَمُ أنه يسبُّ الله تعالى حينئذ، وكحفر الآبار في طرق المسلمين إذا علم وقوعهم فيها أو ظن، وإلقاء السُّمّ في أطعمتهم إذا علم أو ظن أنهم يأكلونها فيهلكون. والمختلف فيه كالنظر إلى المرأة لأنه ذريعة للزنا بها، وكذلك الحديث معها، ومنها بيوع الآجال عند مالك رحمه الله."[4]
وقد تعقَّب العطار الشافعي كلام القرافي بقوله: "وأما قاعدة سدّ الذرائع فقد اشتهرت عند المالكية، وزعم القرافي أن كل أحد يقول بها، ولا خصوصية للمالكية إلا من حيث زيادتهم فيها ... قال المصنف: وقد أطلق هذه القاعدة على أعمَّ منها، ثم زعم أن كل أحد يقول ببعضها، سنوضح لك أن الشافعي لا يقول بشيء منها، وأن ما ذكره أن الأمة أجمعت عليه ليس من مُسمَّى سَدِّ الذرائع في شيء."[5]
إذا دققنا النظر في ما ذكره القرافي نجد أنه خارح محلّ النقاش، وأن ما ذكره في الحقيقة ليس حديثا عن موقف العلماء من سدّ الذرائع (التي هي بمعنى القول بالمنع من فعلٍ مباح للتذرُّع به إلى المنهي عنه)، وإنما هو حديث عن منهج الشارع في تشريع الأحكام من حيث علاقتها بما تفضي إليه من المفاسد؛ فما يفضي دائما أو غالبا إلى المفاسد نهى عنه الشارع الحكيم، وما لا يفضي إلى المفاسد أو يفضي نادرا تركه على الإباحة، وقد يكون الفعل منهيا عنه في حال دون حال حسب أحوال الإفضاء إلى المفسدة.
والمسائل التي عدَّها القرافي من الذرائع المتفق على منعها، ليس الاتفاق عليها بسبب القول بمبدأ سدّ الذرائع، وإنما لكونها منصوص على تحريمها، فالاتفاق على المنع منها بسبب الدليل الشرعي الوارد فيها، وليس بسبب إعمال قاعدة سدّ الذرائع من طرف المجتهدين.
فالنهي عن سبِّ آلهة المشركين منصوص عليه في القرآن الكريم. وما ذكره من عدم جواز حفر البئر في طريق عام ليس من سد الذرائع، فلا يجوز أصلا للشخص حفر بئر في الطريق؛ لأن الطريق العام حق لجماعة المسلمين، وحفر بئر أو إحداث فيه ما يؤذي الناس حرام أصلا بغض النظر عن العلم أو الظن بوقوع أحد من الناس فيه، وبغض النظر عن تحقُّق ذلك الوقوع أو عدم تحقُّقه. ولا يُشترط في المنع من ذلك العلم بوقوع الناس فيه أو ظن ذلك، بل هو أمر ممنوع أصلا.
وكذلك إلقاء السُّمّ في الماء الذي يشرت منه الناس، أو الطعام الذي يأكلون منه، ليس من باب سد الذرائع؛ لأنه لا يجوز أصلا للشخص فعل هذا، وفعلُه من الفساد في الأرض الذي حرمه الله عز وجل. ولا يشترط في المنع من ذلك العلم باستعمال الناس لتلك الأطعمة والأشربة، أو ظن ذلك، بل هو أمرٌ ممنوع أصلا.
وليس من باب سَدّ الذرائع ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: "يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ."[6] لأن سَبَّ الناس ولعنهم مُحرَّم شرعا سواء أدى إلى الردّ بسبِّ والدي الجاني ولعنهما أم لم يؤدِّ إلى ذلك. وإنما عُدَّ هذا من أكبر الكبائر لما فيه من جُرم مضاعَف: سبُّ والدي الآخرين والتسبُّب في الرد بسبِّ والديه ولعنهما.
رأي المالكية في سَدّ الذرائع
اشتهر المالكية بالقول بسد الذرائع، وأشهر موضوع يقولون فيه بسد الذرائع هو منع بيوع الآجال التي يتذرع بها الناس -عادة- إلى الربا.
استدل المالكية على مشرعية العمل بسدّ الذرائع بنوعين من الأدلة: أولها: القياس على بعض النصوص الشرعية التي وردت بتحريم بعض الذرائع، والثاني: النصوص الشرعية التي تدعو إلى اجتناب الشبهات وما فيه ريبة.
أما النصوص الشرعية التي وردت بتحريم بعض الذرائع، فأهمها:
1- قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (البقرة: 104). قال الباجي: "وجه الدليل من الآية أنه -تعالى- نهى المؤمنين عن أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم "راعنا" لأن أهل الكفر كانوا إذا خاطبوا النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ أرادوا به سَبَّهُ، فمنع المؤمنين أن يخاطبوه بهذا اللفظ، وإن كان لا يصح أن يريد به مؤمن شيئا من ذلك. وهذا معنى الذريعة، وهو العقد الذي يريد الفاجر أن يتوصل به إلى الربا فيُمْنَعُ من ذلك الصالح، وإن كان لا يريد به ذلك."[7]
2- قوله تعالى: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (البقرة: 163)، ذلك أنهم تذرعوا إلى صيدها بالحظر عليها يوم السبت بما يمنع رجوعها، ثم يتصيدونها يوم الأحد، فعاقبهم الله عز وجل على ذلك.[8]
3- قوله تعالى: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام: 108).
4- قوله صلى الله عليه وسلم: "لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا، فَبَاعُوهَا."[9] قال الباجي: "فلما باعوها وأكلوا أثمانها كان ذلك بمنزلة أكلها. وكذلك من باع عشرة دراهم بدينار ابتاعه من مبتاعه بعشرين درهما كمن باع عشرة دراهم بعشرين درهما."[10]
أما النصوص التي تدعو إلى اجتناب الشبهات وما فيه ريبة، فأهمها:
1- قوله صلى الله عليه وسلم: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ، فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الكَذِبَ رِيبَةٌ."[11] قال الباجي: "وهذا نهي عن ترك ما يريب، وليس في الريبة أعظم مما ذكرناه".[12]
2- قوله صلى الله عليه وسلم: "الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ."[13] قال الباجي: "لا خلاف بين المسلمين أنه يجب على الإنسان أن يفعل ما هو أبرأ لدينه."[14] وقال تعقيبا على مَثَل الحِمَى: "وإذا كان ذلك كذلك وجب أن يترك ما يضارع الحرام ويتوصل به إليه."[15]
وأبرز مسألة قال فيها المالكية بسدّ الذرائع هي المنع من بيوع الآجال التي يتذرع بها الناس عادة إلى الربا. وقد اختلف علماؤهم في سبب المنع: فذهب بعضهم إلى أن سبب ذلك هو كونها أكثر معاملات أهل الربا. وعلى هذا الرأي، يكون الحكم تبعا لعادة الشخص، فمن عُلِم من عادته استعمال تلك العقود للتحيُّل على الربا، حُمِل عقده على ذلك وفُسِخ. ومن لم يُعْهَد عليه ذلك، أُمضي عقده. وذهب بعضهم إلى أن السبب هو سدّ ذرائع الربا، وعلى ذلك يُمنع الكل، بغض النظر عن القصد إلى الربا أو عدم القصد إليه.[16] وذكر ابن عاشور أن سبب اعتداد مالك بالتهمة فيها هو أن قصد الناس إلى فعلها أفضى إلى شيوعها وانتشارها، فحصلت بها المفسدة التي لأجلها حُرِّم الربا، فسبب اعتداد مالك بالتُّهمة فيها هو شيوعها حتى صار الناس يتحيَّلون بها على ما مُنِع عليهم، فلا يكون معيار المنع هو قصد الشخص، وإنما هو شيوع التذرُّع بها إلى المحظور.[17]
رأي ابن حزم في سدّ الذرائع
يرفض ابن حزم تحريم شيء بالظن أو بالشبهة أو الاحتياط، ويرى أن الحرام هو ما حرمه الشرع صراحة، وما لم يحرمه الشرع صراحة فهو على الإباحة. كما يرى أن اجتناب الشبهات والتزام الورع مُرَغَّب فيهما، ولكنهما غير واجبين، ولا يجوز لأحد أن يلزم الناس بهما. وفي ذلك يقول: "ولا يحل لأحد أن يحتاط في الدين فيُحَرِّم ما لم يُحرِّم الله تعالى، لأنه يكون حينئذ مفتريا في الدين، والله تعالى أحوط علينا من بعضنا على بعض. فالفرض علينا ألا نحرم إلا ما حرم الله تعالى، ونص على اسمه وصفته بتحريمه. وفَرْضٌ علينا أن نبيح ما وراء ذلك بنصه تعالى على إباحة ما في الأرض لنا، إلا ما نص على تحريمه، وألا نزيد في الدين شيئا لم يأذن به الله تعالى، فمن فعل غير هذا فقد عصى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأتى بأعظم الكبائر."[18]
ويقول: "فكل من حكم بتهمة أو باحتياط لم يستيقن أمره، أو بشيء خَوْفَ ذريعةٍ إلى ما لم يكن بعد، فقد حكم بالظن، وإذا حكم بالظن فقد حكم بالكذب والباطل، وهذا لا يحل وهو حكم بالهوى وتجنُّب للحق."[19]
ويمكن تلخيص الأسس التي أقام عليه ابن حزم مذهبه في الآتي:
1- الأصل في ما خلق الله تعالى أنه حلال، بدليل قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا) (البقرة: 29)، ولا يحرم منه إلا ما نص الشارع على تحريمه، بدليل قوله تعالى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) (الأنعام: 119). وبناء على ذلك فإن تحريم ما لم ينص الشارع على تحريمه هو من باب الافتراء على الله، بدليل قوله تعالى: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) (النحل: 116) ويبطل بهذه النصوص أن يُحرِّم أحدٌ شيئا باحتياط أو خوف تذرُّع.[20]
2- القاعدة أن "ما تيقن تحريمه فلا ينتقل إلى التحليل إلا بيقين آخر من نص أو إجماع، وكل ما تيقن تحليله فلا سبيل أن ينتقل إلى التحريم إلا بيقين آخر من نص أو إجماع، وبطل الحكم باحتياط."[21] ويستدل على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من توهَّم أنه أحدث في الصلاة أن لا يلتفت إلى ذلك وأن يتمادى في صلاته، إلا إذا سمع صوتا أو وجد ريحا.[22]
3- المشبهات ليست داخلة في دائرة الحرام، ولا يجوز تحريمها وإلزام الناس بتركها. فقوله صلى الله عليه وسلم: "الحلال بَيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ، وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شُبِّه عليه من الإثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان. والمعاصي حمى الله، من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه" يُسْتَفَاد من ألفاظ رواياته المتعددة أن "هذا حَضٌّ منه صلى الله عليه وسلم على الورع، ونَصٌّ جليٌّ على أن ما حول الحمى ليس من الحمى، وأن تلك المشتبهات ليست بيقين من الحرام، وإذا لم تكن مما فُصِّل من الحرام، فهي على حكم الحلال."[23]
ويقول عن اجتناب المشتبهات: "هذا إنما هو مُسْتَحَبٌّ للمرء، خاصة فيما أشكل عليه، وأنَّ حُكم من استبان له الأمر بخلاف ذلك."[24] ويقول: "ومن حَرَّم المشتبه، وأفتى بذلك، وحكم به على الناس فقد زاد في الدين ما لم يأذن به الله تعالى."[25] ويقول عن الذين يقولون بسدّ الذرائع: "ومن العجيب أن خوف الحرام أن يقع فيه غيرهم -ولعله لا يقع فيه- قد أوقعهم يقينا في مواقعتهم يقين الحرام، لأنهم حرموا ما لم يحرمه الله تعالى، ومُحرِّمُ الحلال كمُحَلِّل الحرام ولا فرق."[26]
4- يفسر ابن حزم حديث: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به بأس" بأن ذلك حّضٌّ على الورع لا إيجابا للترك.[27]
ويلخص ابن حزم موقفه من الشبهات بقوله: "فنحن نحضُّ الناس على الورع كما حضَّهم النبي صلى الله عليه وسلم ونَدَبَهُم إليه، ونشير عليهم باجتناب ما حاك عليهم في النفس، ولا نقضي بذلك على أحد ولا نفتيه به فتيا إلزام، كما لم يقض بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم على أحد."[28]
5- يرد ابن حزم الاستدلال بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا) بأن علة النهي لم ينص عليها القرآن الكريم ولا الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما هي من قول الصحابي ولا حجة في قول الصحابي، ولزم الوقوف على ظاهر النص دون بحث عن العلة.[29]
رأي الشافعي في سدّ الذرائع
ذهب الإمام الشافعي إلى رفض القول بسد الذرائع، واحتج على ذلك بكون الأحكام في الإسلام تُبْنَى على الظاهر فقط، حيث يقول: "الأحكام على الظاهر والله ولي المغيَّب. ومن حكم على الناس بالإزْكَان ]أي الظن[ جعل لنفسه ما حظر الله تعالى عليه ورسولُه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله عز وجل إنما يولي الثواب والعقاب على المغيَّب؛ لأنه لا يعلمه إلا هو جل ثناؤه، وكلَّف العباد أن يأخذوا من العباد بالظاهر، ولو كان لأحد أن يأخذ بباطن عليه دلالة، كان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وما وصفت من هذا يدخل في جميع العلم."[30]
واستدل على هذا المبدأ بأدلة، أهمها ما يأتي:
1- أن الله تعالى أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بحقيقة المنافقين، وأنهم إنما يُعلنون أيمانهم ليكون ذلك مانعا من قتلهم (سورة المنافقين: 1-2). ولكن مع كفرهم واتخاذهم إعلان الإيمان جُنَّة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرَّهم يتناكحون ويتوارثون، ويُسْهم لهم إذا حضروا القسمة، ويحكم لهم بأحكام المسلمين.[31]
2- قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ. وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ. فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ، فَلاَ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئاً، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ."[32] يقول الشافعي: "فأخبرهم أنه يقضي بالظاهر، وأن الحلال والحرام عند الله على الباطن، وأن قضاءه لا يُحِلُّ للمقضي له ما حرَّم الله تعالى عليه إذا علمه حراما."[33]
3- قوله صلى الله عليه وسلم: "أيُّهَا النَّاسُ قد آن لكم أن تَنْتَهُوا عن مَحَارِمِ الله تعالى. مَنْ أصَابَ مِنْكُم مِنْ هذه القاذورات شيئا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ الله، فإنَّه من يُبْدِ لنا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عليه كتاب الله."[34] فأخبرهم أنه لا يكشفهم عما لا يبدون من أنفسهم، وأنهم إذا أبدوا ما فيه الحقُّ عليهم أُخِذُوا بذلك.[35]
4- قصة الملاعنة بين هلال بن أمية وزوجته، عندما اتهمها بالزنا مع شريك بن سحماء، وأنها حملت من ذلك الزنا. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أَبْصِرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ العَيْنَيْنِ، سَابِغَ الأَلْيَتَيْنِ، خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ، فَهُوَ لِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ"، فجاءت به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْلاَ مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ." [36] يقول الشافعي: "ولم يستعمل عليهما الدلالة البيِّنة التي لا تكون دلالة أَبْيَن منها، وذلك خبرُهُ أن يكون الولد، ثم جاء الولد على ما قال."[37]
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أبطل حكم الدلالة التي هي أقوى من الذرائع، فإن ذلك يدل على بطلان ما هو أضعف منها من الذرائع؛ لأن إبطال الأقوى يدل على بطلان ما هو أضعف منه.[38]
5- روى الشافعي أن رُكَانَةَ بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ طلق امرأته سُهَيْمَةَ الْمُزَنِيَّةَ الْبَتَّةَ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي سُهَيْمَةَ الْبَتَّةَ، وَوَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرُكَانَةَ: «وَاللَّهِ مَا أَرَدْتَ إِلَّا وَاحِدَةً؟» فَقَالَ رُكَانَةُ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً، فَرَدَّهَا إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ."[39]
والملاحظ أن الشافعي قد فَسَّر الظاهر في هذه الواقعة بالمعنى المتيقَّن، فجعل إيقاع الطلاق ظاهرا، أي متيَقَّنا، وجعل لفظ البتة محتملا، غير متيقَّن في كونه ثلاثا، ولذلك قُبِلَ فيه قول صاحبه بأنه إنما قصد الطلاق مرة واحدة. وفي ذلك يقول: "والأغلب على من سمع قول ركانة لامرأته: أنت طالق البتة أنه يعقل أنه قد أوقع الطلاق بقوله: طالق، وأن البتة إرادة شيء غير الأول؛ أنه أراد الإبتات بثلاث، ولكنه لما كان ظاهرا في قوله واحتمل غيره لم يحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بظاهر الطلاق وذلك واحدة."[40] ويقول: "ويبطل مثله من قول الرجل لامرأته "أنت طالق البتة"؛ لأن "طالق" إيقاع طلاق ظاهر، و"البتة" تحتمل زيادة في عدد الطلاق وغير زيادة، فعليه الظاهر. والقول قوله في الذي يحتمل غير الظاهر، حتى لا يُحكَم عليه أبدا إلا بظاهر، ويُجعل القول قولُه في غير الظاهر."[41]
عند النظر في ما ذكره الشافعي من أدلة نلاحظ أن الأدلة الأربعة الأولى ظاهرة في الحكم بالظاهر، وليست محلّ خلاف، أما الدليل الخامس -قصة ركانة- فهو دليل على اعتبار القصد في الحكم وعدم الاكتفاء بالظاهر؛ لأن الظاهر يدل على الطلاق الثلاث، والدليل على ذلك أن ركانة نفسه كان يُدرك ذلك، ولذلك جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحتج أن قصده خلاف ظاهر لفظه، فظاهر اللفظ الطلاق البات، ولكنه قصد واحدة فقط، وبعد أن استوثق النبي صلى الله عليه وسلم من قصده، جعل الطلاق رجعيا ورد عليه زوجته، وهذا دليل على الحكم بالقصد لا بظاهر اللفظ.
وبناء على قاعدة الحكم بالظاهر التي دلت عليها النصوص الشرعية، يرفض الشافعي الحكم على الناس بالظن، كما يرفض إبطال العقود بالقصد الفاسد، ويرى أن العقود لا يُبْطِلُها إلا ما ورد النص عليه في لفظها. يقول بعد ذكر الأدلة السابقة: "كلها تُبطل حكم الإزكان ]الظن[ من الذرائع في البيوع وغيرها من حكم الإزكان، فأعظم ما فيما وصفتُ من الحكم بالإزكان خلاف ما أمر الله عز وجل به أن يُحْكَمَ بين عباده من الظاهر، وما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم".[42]
ويقول: "وهذا يدل على أنه لا يفسد عقدٌ أبدا إلا بالعقد نفسه. لا يفسد بشيء تقدَّمه ولا تأخَّره، ولا بتوهُّم ولا بالأغلب. وكذلك كل شيء لا نفسده إلا بعقده، ولا نفسد البيوع بأن يقول: هذه ذريعة، وهذه نيَّةُ سوء. ولو جاز أن نبطل من البيوع بأن يُقال: متى خاف أن تكون ذريعة إلى الذي لا يحل، كان أن يكون اليقين في البيوع بعقد ما لا يحل أولى أن يُردَّ به من الظن. ألا ترى أن رجلا لو اشترى سيفا ونوى بشرائه أن يقتل به، كان الشراء حلالا، وكانت النية بالقتل غير جائزة، ولم يبطل بها البيع. قال: وكذلك لو باع البائع سيفا من رجل يراه أنه يقتل به رجلا كان هكذا... فإذا دلّ الكتاب، ثم السُّنة، ثم عامة حُكم الإسلام على أن العقود إنما تثبتُ بظاهرِ عقدِها، لا يُفسِدُها نيّة العاقدين، كانت العقود إذا عُقدت في الظاهر صحيحة أولى أن لا تفسد بتوهُّم غير عاقدها على عاقدها، ثم سيَّما إذا كان توهُّما ضعيفا."[43]
المطلب الثالث: المعيار الضابط للعمل بسد الذرائع
بعد النظر في مفهوم سدّ الذرائع، وفي أدلة القائلين بها والمانعين منها، تبيَّن لي أن المعيار الضابط للمسألة هو النظر إليها من خلال ثلاث مقامات: مقام الإرشاد، ومقام الحكم والقضاء، ومقام السياسة الشرعية.
أولا: مقام الإرشاد
هذا المقام هو مقام تعليم الناس أحكام الدين، وإرشادهم إلى طريق الخير والصلاح، وتنفيرهم من طريق الشر والفساد، وتعليمهم محاسن الأخلاق ومعالي الأمور وطريق التقوى. وهو يشمل: تعليم الناس الحلال البيِّن والحرام البيِّن، وبيان مقاطع الحقوق، وتعليمهم طريق الورع واتقاء الشبهات، وتعليمهم تحمُّل مسؤولية تصرفاتهم؛ كما يشمل تنمية الوازع الداخلي في نفوس الناس طبقا لقوله صلى الله عليه وسلم: "الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ."[44] ويشمل هذا المقام الفتوى التي تكون توجيها للناس وإرشادا، والأصل في الفتوى عدم الإلزام، ولا تصير لازمة إلا إذا تحوَّلت إلى حكم قضائي أو قانون تسُنُّه الدولة.
ومما لا شك فيه أنه في هذا المقام ينبغي على العالم أن يرشد الناس إلى طريق الخير والتقوى والصلاح، ويأمرهم بفعل الواجبات واجتناب المحرمات، ويرغبهم في تجنُّب الشبهات وذرائع الفساد طبقا لقوله صلى الله عليه وسلم: "الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ."[45] وبناء على ذلك فلا ينبغي لمسلم أن يُفتي غيره بالشبهات ويرشدهم إلى الوقوع فيها، ولا يجوز لعالم -بدعوى التيسير وإيجاد المخارج- أن يشير على الناس بالاحتيال على الأحكام الشرعية، ولا أن يعلمهم طرق ذلك الاحتيال، مثل التذرع إلى الربا بعقود ومعاملات صورية، وإرجاع المطلقة البائن بنكاح التحليل، وإسقاط الكفارات والواجبات بالاحتيال عليها؛ لأن ذلك إفساد لدين الناس وأخلاقهم.
ثانيا: مقام الحكم والقضاء
من المعلوم أن القاضي لا يعلم الغيب ولا يدرك حقائق الأمور، وإنما يقضي بناء على الأدلة الظاهرة التي يقدمها الخصوم. وخطأ القاضي في الحكم لا يُحِلُّ حراما، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَهُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ، فَأَقْضِي لَهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ، فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ، فَلْيَحْمِلْهَا أَوْ يَذَرْهَا."[46]
والقاعدة في الإسلام أن الحكم يكون على الظواهر، أما السرائر فهي موكولة إلى ضمائر أصحابها، والله تعالى يتولى أمرها يوم القيامة، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ، وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ."[47] وفي قصة الملاعنة -التي سبق ذكرها- لم يعاقب الرسول صلى الله عليه وسلم واحدا من أطرافها؛ لأن الزوج أقسم على صدقه في الاتهام، والزوجة أقسمت على كذب الزوج في اتهامه إياها، والمتَّهم بالزنا بالمرأة أنكر، ولم يوجد شهود عليه. وقال صلى الله عليه وسلم بعد التفريق بينهما: "انْظُرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَحْمَرَ قَصِيرًا مِثْلَ وَحَرَةٍ، فَلاَ أُرَاهُ إِلَّا قَدْ كَذَبَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْحَمَ أَعْيَنَ ذَا أَلْيَتَيْنِ، فَلاَ أَحْسِبُ إِلَّا قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا"، فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى الأَمْرِ الـمَكْرُوهِ."[48] وبظهور تلك العلامة ظهر كذب المرأة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُغيِّر الحكم، ولم يُعاقبها، لأن الله عز وجل قال: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ) (النور: 8)، فاكتفى في إسقاط العقاب بالإتيان بالشهادة كاملة، بغض النظر عن الصدق والكذب في تلك الشهادة.
يتبع
المصدر... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|