الجمع بين صلاتين بسبب الوحل والطين
محمد رفيق مؤمن الشوبكي
وقع الخلاف بين الفقهاء القائلين بجواز الجمع بعذر، هل الوحل والطين عذر يباح به الجمع؟
على قولين:
القول الأول: وهو قول المالكية والحنابلة، الوحل والطين عذر يباح معهما الجمع تقديمًا بين صلاتي المغرب والعشاء، لا الظهر والعصر، غير أن المالكية اشترطوا أن يكون الوحل أو الطين مقترنًا بظلمة شديدة؛ أي: الليالي التي لا قمر فيها، ولا يجمع على المشهور عندهم للظلمة وحدها، بل لا بد من اقترانهما معًا، ولم يشترط الحنابلة للجمع بهما شيئًا، قال الإمام مالك: (يجمع بين المغرب والعشاء في الحضر - وإن لم يكن مطرٌ - إذا كان طينٌ وظلمةٌ).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
(الوحل: الزلق والطين؛ فإذا كانت الأسواق قد ربصت من المطر، فإنه يجوز الجمع، وإن لم يكن المطر ينزل؛ وذلك لأن الوحل والطين، يشق على الناس أن يمشوا عليه).
القول الثاني: وهو قول الشافعية وبعض الحنابلة، الوحل والطين لا يبيحان الجمع مطلقًا.
ونحن نتفق مع القائلين بعدم إباحة الجمع من أجل الوحل والطين؛ وذلك لعدم ورود هذا العذر ضمن الأعذار التي تبيح الجمع في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وجود الوحل والطين في زمانه، وكذلك لأن زماننا اليوم اختلف من حيث وجود البنية التحتية في غالبية المدن؛ فالشوارع معبَّدة ومرصوفة، ولا يلحق الوحل والطين الأذى والمشقة التي كانت مقصد جواز الجمع عند القائلين به، ولكن أهل الريف ومن لا يزالوا يعانون ويجدون المشقة في بلادهم من الوحل والطين فإن لهم الاستفادة من هذا العذر وفقًا للقول الأول، والله أعلى وأعلم.
ملاحظة هامة: نسمع كثيرًا من عامة الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بعذر وبغير عذر، وهذا كلام غير صحيح وغير مستند لدليل؛ فروى الإمام مسلم في صحيحه والإمام الترمذي في سننه عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: جمع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، من غير خوف ولا مطر، قالوا: ما أراد من ذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته؛ (أي: ألا يلحقها الحرج)، وعلى هذا فالضابط في الجمع: أن يكون في تركه حرج ومشقة وفقًا للضوابط التي وضعها العلماء.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في ذلك:
(نأسف أن بعض الناس الذين يقولون: نتمسك بالسنة يغلطون في هذه المسألة، ويظنون أن الجمع جائز لأدنى سبب، وهذا خطأ، ثم يجب أن نقول: إذا علمنا أنه لا حرج في ترك الجمع صار الجمع حرامًا، وإذا علمنا أن في تركه حرجًا صار الجمع جائزًا بل سنة، وإذا شككنا صار الجمع حرامًا؛ لأن الأصل وجوب فعل الصلاة في وقتها، فلا نعذر عن هذا الأصل إلا بأمر متيقن... ثم إني أقول لكم: يا إخواني، لا تظنوا أن الجمع رخصة عند كل العلماء، حتى الذين يقولون: إنه يجوز، يقولون: تركه أفضل، لكننا نحن نرى أنه إذا وجد السبب ففعله أفضل، وهناك مذهب يمثل ثلاثة أرباع الأمة الإسلامية لما كانت الخلافة في الأتراك، وهم على مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وهو يرى أنه لا جمع مطلقًا إلا في موضعين: في عرفة ومزدلفة؛ لأجل النسك، وإلا فلا جمع في السفر أو المرض أو المطر، ولا غير ذلك، فلا تظن أن المسألة سهلة، المسألة صعبة. فالخلاصة: إذا تحقق العذر فالجمع أفضل، وإذا علمنا أنه لا عذر فالجمع حرام، وإذا شككنا فالجمع حرام؛ لأن الأصل هو وجوب فعل الصلاة في أوقاتها...).
وعليه، يجب أن يعلم كل من يجمع بين الصلاتين بدون عذر شرعي أن جمعه باطل؛ أي: إن صلاته الثانية باطلة؛ لأنها وقعت في غير وقتها المقدر لها شرعًا؛ فدخول الوقت شرطٌ من شروط صحة الصلاة، والأصل في الصلوات الخمس أن تصلى كل منها في وقتها الشرعي؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ [النساء: 103].
وقد قال العلماء كلامًا خطيرًا في حق من جمع بين الصلاتين بدون عذر شرعي؛ فقد ذكر الإمام ابن حجر الهيتمي في كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر أن من جمع بين الصلاتين بدون عذر شرعي ارتكب حرامًا، بل كبيرة من كبائر الذنوب.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه مجموع الفتاوى: (قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر، وقد رواه الترمذي مرفوعًا عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من جمع بين الصلاتين من غير عذر، فقد أتى بابًا من أبواب الكبائر، ورفع هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان فيه نظر؛ فإن الترمذي قال: العمل على هذا عند أهل العلم، والأثر معروف، وأهل العلم ذكروا ذلك مقرين له، لا منكرين له).
أقوال بعض العلماء في أن ترك الجمع بين الصلاتين أفضل خروجًا من الخلاف:
1- قال الإمام النووي وهو أحد أئمة الشافعية في كتابه روضة الطالبين: (وترك الجمع أفضل بلا خلاف، فيصلي كل صلاة في وقتها؛ للخروج من الخلاف؛ فإن أبا حنيفة وجماعة من التابعين لا يجوزونه، وممن نص على أن تركه أفضل الغزالي وصاحب التتمة (وهو أبو سعد المتولي الشافعي)، قال الغزالي في البسيط: لا خلاف أن ترك الجمع أفضل).
2- قال الإمام الخطيب الشربيني وهو أحد أئمة الشافعية في كتابه مغني المحتاج: (والأفضل ترك الجمع خروجًا من خلاف أبي حنيفة).
3- قال الإمام ابن مفلح - وهو أحد أئمة الحنابلة وتلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية - عن الجمع: (وتركه أفضل).
4- قال الإمام المرداوي - وهو أحد أئمة الحنابلة - في كتابه الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف: (يؤخذ من قول المصنف: (ويجوز الجمع) أنه ليس بمستحب، وهو كذلك، بل تركه أفضل على الصحيح من المذهب، وعليه أكثر الأصحاب).
5- قال الإمام البهوتي - وهو أحد أئمة الحنابلة - في كتابه كشاف القناع: (الجمع بين الصلاتين ليس بمستحب، بل تركه أفضل؛ للاختلاف فيه).
6- قال الإمام ابن غانم الأزهري - وهو أحد أئمة المالكية - في كتابه الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني: (الجمع رخصة مرجوح فعلُها؛ إذ الأولى تركها).
مسألة: هل يجوز القصر مع الجمع عند وجود العذر في فصل الشتاء؟
إذا تحقق عذر في فصل الشتاء فيشرع الجمع لا القصر؛ لأن القصر حكم خاص للمسافر فقط، قال الشيخ ابن باز رحمها لله: (أما الجمع فأمره أوسع؛ فإنه يجوز للمريض، ويجوز أيضًا للمسلمين في مساجدهم عند وجود المطر، أو الدحض، بين المغرب والعشاء، وبين الظهر والعصر، ولا يجوز لهم القصر؛ لأن القصر مختص بالسفر فقط).
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك