08-01-2015, 10:37 AM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 376,241
|
|
5)الفرع الثاني-زهد العالم في هذا الدين لذل أهله بترك الجهاد
(016 قليل من الناس يصغون لدعوة الحق التي يحملها من لا قوة له، ويسمعون حججها ويستجيبون لها، لأنها حق واضح الحجة، ومن هؤلاء تلك القلة التي استجابت للرسول صَلى الله عليه وسلم في أول الإسلام بمكة، كأبي بكر وعلي وبلال وخديجة وآل ياسر وعثمان بن عفان رضِي الله عنهم.
والذين يستجيبون للحق مع ضعف أهله وقوة أعدائه، هم قوم رزقوا فطرة صافية تجعلهم كذلك، ثم لا يبالون ما وراء تلك الاستجابة من متاعب وعقبات وإيذاء وفتنة، لأن الحق عندهم أغلى من أنفسهم وأموالهم وأكبر من كل شيء في هذه الحياة.
وكثير من الناس قد يظهر لهم أن هذه الدعوة حق، ولكن ضعف أهلها وقوة أعدائها تجعلهم يحجمون ويتريثون خوفاً على أنفسهم من بطش القوي المعارض، وانتظاراً لصاحب الغلب في النهاية.
وكثير من الناس تظهر لهم دعوة الحق أنها حق، ولكن كِبْرَهم يصدهم عن الإقرار بها والاستجابة لها، لا سيما إذا رأوا أن أتباعها من الضعفاء الذين لا مال لهم ولا جاه ولا منصب، زهداً منهم في دعوة أتباعها ضعاف غير أقوياء، ولو كانت حقاً قامت على صدقها الحجج والبراهين.
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يا قوم أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَءَاتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [هود: 25-31].
فقد كفر الملأ من قوم نوح وأبدوا بعض الأسباب التي اقتضت كفرهم في زعمهم:
السبب الأول: أن نوحاً عليه السلام بشر مثلهم.
السبب الثاني: أن أتباعه هم ضعاف الناس وفقراؤهم. وما دام مدعي الرسالة بشراً، وليس بملك، وأتباعه هم مساكين الناس وفقراؤهم، فلا فضل لنوح ولا لأتباعه عليهم حتى يؤمنوا بدعوته، لذلك زهدوا في هذه الدعوة وأصروا على كفرهم. ويجادلهم نوح بالحجة ليقنعهم بها فيقول: إن الحق هو ما قامت عليه الحجة والبينة، لا فرق أن يأتي به بشر رزقه الله إياه أو مَلَك، ولا فرق بين أن يتبع هذا الحق سادة الناس أو ضعفاؤهم.
والذي يظهر أن الملأ طلبوا من نوح أن يطرد هؤلاء الأراذل، في زعمهم، إن أراد أن يدعوهم إلى ما جاء به، لأنه لا يليق في ميزانهم أن يستوي أشراف الناس وضعفاؤهم في مبدأ واحد ودين واحد.. لذلك رفض نوح أن يطرد قوماً استجابوا للإسلام الذي جاء به، وإن احتقرتهم أعين الملأ الكافرين.
وقال تعالى عن مشركي العرب: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:30-32].
فقد كفروا بالحق الذي جاء به محمد صَلى الله عليه وسلم، ووصفوه بالسحر، ولكنهم قالوا: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم.. يعنون لوكان قرآناً حقاً، كان ينزل على ذوي المال والجاه من أهل القريتين: مكة والطائف، لأن هؤلاء في نظرهم هم الأولى بأن تكون لهم الأمور العظيمة، لأنهم عظام بسبب غناهم ورئاستهم في قومهم. أما نزوله على فقير غير زعيم، فأمر مستبعد فهم زهدوا في القرآن للضعف المادي فيمن نزل عليه.
قال ابن كثير رحمه الله - بعد أن ذكر مقالتهم هذه -: قال الله تبارك وتعالى راداً عليهم في هذا الاعتراض: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} أي ليس الأمر مردوداً إليهم، بل إلى الله عز وجل، والله أعلم حيث يجعل رسالته، فإنه لا ينزلها إلا على أزكى الخلق قلباً ونفساً وأشرفهم بيتاً وأطهرهم أصلاً". [تفسير القرآن العظيم (4/127)].
نعم ولكن أعداء الله يؤدبهم الحديد قبل الحجج والبراهين، لذلك قال عثمان بن عفان رضِي الله عنه"إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن". وقال سبحانه: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:52].
وهذه الآية نزلت رداً على قريش الذين أنكروا على الرسول صَلى الله عليه وسلم، أن يدني منه من آمن به من الفقراء والضعفاء، ومنهم ابن مسعود رضِي الله عنه، دونهم احتقاراً لهم". [نفس المرجع السابق (2/134)].
إن هؤلاء الذين زهدوا في الدعوة واحتقروا الرسول صَلى الله عليه وسلم الذي جاء بها، واحتقروا أصحابه الفقراء الضعفاء في زعمهم، كان لهم موقف آخر عندما قويت شوكة الإسلام.. فبلال وابن مسعود كانا من سادة بدر، ونظرة قريش والعرب للرسول صَلى الله عليه وسلم وأصحابه والدعوة التي جاء بها، كانت مختلفة بعد أن انتصر الإسلام وفتحت مكة، فقد دخلوا كلهم في دين الله وأصبحوا من أنصاره، لأنهم رأوا ذلك الدين عزيزاً، ورأوا أهله أعزة أقوياء تملأ قوتهم القلوب رعباً وهيبة.
وإن زهد العالم اليوم في هذا الدين، لهو من هذا القبيل، حيث يسمع دعوة إلى العز والسؤدد والقوة والكمال في كل شيء، ولكنه ينظر إلى أهل هذه الدعوة فيجدهم بعيدين عن العزة.. بل إن الأمم تستذلهم وتستضعفهم وتسيطر عليهم، فيظن كثير منهم أن هذه دعوة خيال وليست دعوة حقيقية، ولو كانت دعوة حقيقية فلماذا لا يطبقها أهلها ولماذا لا يكونون قادة للعالم بها؟ لذلك يزهدون فيها وفي أهلها.. وهذا من أضرار القعود عن الجهاد في سبيل الله.
ولو أن أهلها تمسكوا بدينهم وجاهدوا في سبيل الله لإعلاء كلمته كما أراد الله، ورأى الناسُ الدينَ مطبقاً في سلوكهم، لما زهدوا فيه هذا الزهد. ويوم يجمع المسلمون بين الكتاب والحديد كما جمع الله بينهما سيزول زهد العالم في دينهم وسيدخلون فيه أفواجاً..
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد:25]. نعم {إن الله قوي عزيز} وبقوته وعزته يقوي ويعز من اكتسب القوة والعزة منه، كما أمره الله تعالى، وبقوته وعزته يذل أعداءه المعتدين، ويذل من طلب العزة من غيره: {من كان يريد العزة فإن العزة لله جميعا}
المصدر... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|