07-28-2015, 11:12 AM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 377,285
|
|
تضعيف التّرجيح بقاعدة (إذا تعارض القول والفعل قدمّ القول لاحتمال الفعل الخصوصيّة)
الحمد لله حقّ حمده، والصّلاة والسّلام على نبيّه وعبده، وعلى آله وصحبه، ومن سار ممن جاء بعده على نهجه ودربه.
أما بعد:
فإنّ من بين قواعد التّرجيح التي يأوي إليها العلماء لفضّ الخلاف وفكّ التّعارض الحاصل ــــــــــ في نظر المجتهد ــــــــــ بين حديثين؛ قاعدة يستعملها كثير من العلماء تفيد بأنّه إذا كان أحد النّصّين المتعارضين قولاً والآخر فعلاً؛ فإنّه يقدّم القول على الفعل ويُرجّح عليه، ويُطرح الفعل، وعلّلوا ذلك بأنّ قوله صلّى الله عليه وسلّم تشريع للأمّة عموما، في حين أنّ فعله يحتمل خصوصيته به وقصره عليه.
لكن هذا المرجّح الذي نرى العلماء يجنحون إليه في كثير من مسائل الفقه المبنيّة على حديثين متعارضين فأكثر، ليس له دليل يدلّ على صحّته وصوابه، بل الثّابت من الدّليل على خلاف هذه القاعدة، وبنظرة خاطفة وسريعة على شيء ممّا ورد في السّنّة المطهّرة نجد بأنّ الصّحابة الكرام ــــــــ عليهم من الله الرضوان ـــــــ فهموا من حياة النبي صلى الله عليه وسلّم وهديه المساواة بين الفعل والقول في المنزلة، وأنّهما في مرتبة واحدة في التّشريع، وقد رافق ذلك إقرار النبي صلى الله عليه وسلّم لذلك الفهم من غير نكير.
ومن الأدلّة على هذا: ما أخرجه البخاري (1233) ومسلم (834) واللفظ للبخاري، عن كريب، «أنّ ابن عباس، والمسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن أزهر ــــ رضي الله عنهم ـــ أرسلوه إلى عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ، فقالوا: اقرأ عليها السلام منّا جميعا، وسَلها عن الرّكعتين بعد صلاة العصر، وقل لها: إنّا أخبرنا عنك أنّك تصلّينهما، وقد بلغنا أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عنها، وقال ابن عباس : وكنت أضرب النّاس مع عمر بن الخطاب عنها، فقال كريب: فدخلت على عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ، فبلّغتها ما أرسلوني، فقالت: سل أمّ سلمة، فخرجت إليهم، فأخبرتهم بقولها، فردّوني إلى أمّ سلمة بمثل ما أرسلوني به إلى عائشة، فقالت أمّ سلمة ـــ رضي الله عنهاـــ: سمعت النّبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنها، ثم رأيته يصلّيهما حين صلّى العصر، ثمّ دخل عليّ وعندي نسوة من بني حرام من الأنصار، فأرسلت إليه الجارية، فقلت: قومي بجنبه، فقولي له: تقول لك أمّ سلمة: يا رسول الله: سمعتك تنهى عن هاتين، وأراك تصلّيهما، فإن أشار بيده فاستأخري عنه، ففعلت الجارية، فأشار بيده، فاستأخرت عنه، فلمّا انصرف، قال: يا بنت أبي أميّة، سألت عن الرّكعتين بعد العصر، وإنّه أتاني ناس من عبد القيس، فشغلوني عن الرّكعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان».
فأمّ سلمت لم تجعل نهي النبي صلى الله عليه وسلم أقوى من فعله حين تعارضا عندها، بل سوّت بينهما في الدّرجة، وجعلتهما سيّان في الرّتبة، فلم تقل : لعلّ فعله ذاك خاصّ به، بل عارضت القول بفعله صلى الله عليه وسلم، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لها: كيف تسوّي بين قولي وفعلي، وقد علمت أنّ فعلي يحتمل خصوصيته بي ؟؟؟
ــــــــــ ويؤيّد هذا: ما أخرجه أحمد في "مسنده" (ْ4606، 4617)، والبخاري في "صحيحه" (148، 3102)، وأبو داود في "سننه" (12)، والترمذي في "سننه" (11) عن واسع بن حبّان، عن عبد الله بن عمر، قال: «ارتقَيتُ فوقَ ظَهر بيت حفصَة لبعض حاجتِي، فرأَيتُ رسولَ الله صلَى الله عليه وسلّم يقضِي حاجتهُ مُستَدبِر القبلَة، مستَقبِلَ الشَّأْمِ». فابن عمر لم يفهم من هذه الحالة خصوصيتها بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل جعلها من باب التشريع العام الذي يؤتسى فيه بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولعلّ قائلا يقول: كيف عرفت أنه سوّى بين نهي النبي صلى الله عليه وسلم العامّ لأمته، وبين فعله؟ فلعلّ ابن عمر لم يبلغه النهي!!.
أقول: يردّ هذا الاحتمال ما أخرجه أبو داود في "سننه" (11) وابن خزيمة في "صحيحه" (60)، والحاكم في "المستدرك" (551) عن مروان الأصفَر، قال: «رأَيتُ ابنَ عمَر أناخَ راحلَتهُ مُستقبِل القِبلَة، ثُمّ جلس يبول إليها، فقُلت: يا أبا عبد الرّحمن: أليس قَد نُهِي عن هذا؟ قال: بلى، إنّما نُهِي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلَة شيءٌ يستُرُك فلا بأس ». وحسنه الألباني في " صحيح سنن أبي داود ".
ـــــــــــــ ومن ذلك أيضا: ما أخرجه أبو داود في "سننه" (950)عن عبد الله بن عمرو، قال: «حُدّثتُ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: صلاةُ الرجلِ قاعدًا نصفُ الصلاة، فأتيتُه فوجدتُه يُصلي جالسًا، فوضعتُ يدي على رأسي، فقال: ما لَكَ يا عبدَ الله بنَ عمرو؟، قلتُ: حُدّثتُ يا رسولَ الله أنك قلتَ: صلاةُ الرجل قاعدًا نصفُ الصلاة، وأنت تُصلي قاعدًا، قال : أجل ، ولكني لستُ كأحدٍ منكم».
وجه الدلالة من الحديث أن عبد الله بن عمرو لم يفهم من فعله صلى الله عليه وسلم المخالف لقوله الخصوصية، ذلك لأن القول يفيد نقص الأجر والفضيلة لمن صلّى جالسا، وفعله فيه صلاته عليه الصلاة والسلام قاعدا، ولا يعقل أن يترك النبي عليه السلام الأجر الكامل والفضيلة التامة، من أجل ذا وقع التعارض عند عبد الله بن عمرو، فلم يفهم خصوصية الحكم به عليه السلام، بل فهم العموم، بدليل تحيّره وبقائه عند رأسه ينتظره ليستفسره عن هذا التعارض، حتّى بيّن له النبيّ عليه الصلاة والسلام أنّ حكمه يختلف عن غيره من الناس. .
* وممن ذهب إلى القول بالتسوية بين القول والفعل في الدرجة والرتبة: الشيخ محمد أنور شاه بن معظم شاه الكشميري الهندي ثم الديوبندي (المتوفى: 1353هـ)، فقد قال في كتابه "فيض الباري على صحيح البخاري" (1/338) ــــــــــــــ أثناء بحثه لمسألة استقبال القبلة واستدبارها في قضاء الحاجة ــــــــــ: "وأجابَ الحنفية عن حديث ابن عمر ـــــــــ رضي الله عنه ـــــــــــ وجابر ـــــــــ رضي الله عنه ـــــــــــ أنهما فعلان، والفعل لا يعارضُ القولَ، كما بُسِط في الأصول.
قلت: ولا أحبُّ هذا العنوان، لأن فِعلَه صلى الله عليه وسلّم أيضًا حجةٌ كقوله، فغيّرتُه إلى أنهما حكايتا حالٍ لا عموم لهما، وحديث أبي أيوب نصٌ في الباب، وتشريعٌ في المسألة، وحكمٌ على وصفٍ معلومٍ منضبط. وهذه الأحاديث لم يُعلم سببُها بعدُ، فكيف يُترك ما هو معلومُ السبب بما جُهِل سببه؟ وكيف يُهدر الناطق بالساكت". انتهى كلامه.
المصدر... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|