07-19-2015, 02:49 AM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 377,285
|
|
(0153)الجهاد في سبيل الله-المبحث الخامس: حرص المسلمين على العمل بدينهم وحمايته
إن المسلم من حيث هو مسلم، يجب أن يطيع ربه ونبيه ويعمل بكتاب الله وسنة رسوله صَلى الله عليه وسلم، وإذا نشأ في مجتمع مسلم يجب أن يبقى هذا المجتمع المسلم قائما بدين الله.. ولكن هناك فرقاً بعيداً بين مسلم نشأ في مجتمع إسلامي يطبق فيه الإسلام بدون جهد من هذا الناشئ، وبين مسلم بذل نفسه وماله وقارع الأعداء لإقرار هذا الدين ورفع كلمته في الأرض..
فالأول قد يحرص على تطبيق هذا الدين وقد يحاول حمايته والدفاع عنه، ولكنه قد يتساهل فيما يَثقُل على نفسه الصبرُ عليه، كما إنه إذا اعتدى أعداء الله على مجتمعه أو وطنه الذي يقام فيه الإسلام لا يكون قوياً في حماية دينه - في الغالب - لأنه لم يتعب في إقامة هذا الدين ولم يبذل في سبيل تثبيته ونشره، نفسا ولا مالا...
وجرت العادة أن الذي لا يبذل جهداً في شيء، يسهل عليه أن يفرط فيه، بخلاف الثاني الذي بذل نفسه وماله في سبيل الله، واقتحم العقبات في سبيل الله وقارع الأعداء حتى ذاق حلاوة العمل بهذا الدين، واستقراره في الأرض وعاش حلاوته وارتفاع رايته.. فإنه يكون شديد الالتزام به في نفسه وفي عشيرته، وفي مجتمعه، وشديد الحرص على حمايته ونشره في الأرض فلا يفرط في شيء منه..
ولعل هذا من حكم ابتلاء عباده المؤمنين بأعدائه الكافرين الذين هو قادر سبحانه على هزيمتهم بغير جهاد من أحد من خلقه.. كما قال تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:4].
قال سيد قطب رحمه الله: "ولا بد من تربية النفوس بالبلاء ومن امتحان التصميم على معركة الحق، بالمخاوف والشدائد وبالجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات، لا بد من هذا البلاء، ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة، كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف. والعقائد الرخيصة التي لا يؤدي أصحابها تكاليفها لا يعز عليهم التخلي عنها عند الصدمة الأولى، فالتكاليف هنا هي الثمن الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعز في نفوس الآخرين". [في ظلال القرآن (2/145)].
وقال في موضع آخر: "وما بالله - حاشا لله - أن يعذب المؤمنين بالابتلاء، وإن يؤذيهم بالفتنة، ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة..". إلى أن قال: "وإنهم ليتسلمون الأمانة وهي عزيزة على نفوسهم، بما أدوا لها من غالي الثمن وبما بذلوا لها من الصبر على المحن، وبما ذاقوا في سبيلها من الآلام والتضحيات، والذي يبذل من دمه وأعصابه ومن راحته واطمئنانه ومن رغائبه ولذاته، ثم يصبر على الأذى والحرمان، يشعر ولا شك بقيمة الأمانة التي بذل فيها ما بذل، فلا يسلمها رخيصة بعد كل هذه التضحيات والآلام". [في ظلال القرآن (20/2721)].
المبحث السادس: إسعاد الناس بنور الإسلام وعدله ورحمته
قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:257]. وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76].
في الآية الأولى من سورة البقرة، أخبر سبحانه أن الإسلام نور، وأن الكفر ظلمات، وأنه عز وجل ولي المؤمنين يخرجهم من الكفر الذي هو ظلمات إلى الإسلام الذي هو نور، وأن الطواغيت هم أولياء الكفار يخرجونهم من الإسلام الذي هو نور إلى الكفر الذي هو ظلمات.. فالله يريد لعباده النور، والطواغيت يريدون لهم الظلمات.
وفي الآية الثانية من سورة النساء، أخبر سبحانه أن عباده المؤمنين الذين هو وليهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور، يجاهدون في سبيل إخراج الناس من الظلمات التي يريدها لهم الطغاة إلى النور الذي يريده لهم الله، وأن الكفار يقاتلون لتحقيق هدف الطغاة، وهو إخراج الناس من النور إلى الظلمات، إلا أنه عبر هنا عن النور بسبيل الله، وعن الظلمات بسبيل الطاغوت.
فالجهاد في سبيل الله يسعد الناس بهذا الدين الذي هو نور، لأنه يحطم عروش الطغاة الذين يحرمونهم من هذه السعادة التي لا تعدلها سعادة. ويلازم الإسلامَ العدلُ، كما يلازم الكفرَ الظلمُ، لذلك كان الجهاد في سبيل الله الذي يسعد الناس بالإسلام يسعدهم كذلك بالعدل..
وقد حاول اليهود أن يفسدوا حياة المسلمين السعيدة، بتطبيق العدل الذي أرادوا أن يسعدوا به البشرية كلها، ففشلوا في محاولتهم واعترفوا بأن السماوات والأرض إنما قامت به. فقد أمر رسول الله صَلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة، أن يأتي إلى مزارع اليهود التي أقرهم عليها بخيبر يقومون عليها ولهم الشطر، فيخرصها واليهود مشهورون بالشح والحرص على المال..
فشكوا إلى رسول الله صَلى الله عليه وسلم شدة خرص ابن رواحة، ثم أرادوا أن يرشوه ليقلل ما يخرصه عليهم، فقال لهم رضِي الله عنه: تُطَمِّعونني بالسحت! والله لقد جئتكم من أحب الناس إلي، ولأنتم أبغض إلي من عِدَّتِكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم على ألا أعدل عليكم، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض". [أحمد، برقم (4768) من حديث ابن عمر، ورقم (14996) من حديث جابر، وابن حبان في صحيحه، برقم (5199) وهو في جامع الأصول (2/643)].
تأمل هذا التطبيق العملي للقرآن الكريم الذي قرره الله تعالى في بعض آيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:8].
والجهاد في سبيل الله يحقق للبشرية هذه الثمرة الطيبة، كما قال ربعي بن عامر، وقد سأله رستم قائد الفرس: "ما جاء بكم"؟ قال : "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.." [البداية والنهاية لابن كثير (7/39)].
والبشرية دائما تتطلع إلى المجاهدين الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، لينقذوهم من ظلم الظالمين.. فذو القرنين الذي مكن الله له في الأرض فطاف في مشارقها ومغاربها أدب الظالمين وأيد ذوي العدل المحسنين.. كما قال الله تعالى عنه: {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} [الكهف:88].
هذا الرجل المجاهد الذي بعثه الله لإسعاد الناس بجهاده، تلقاه الناس بشكاواهم طالبين منه رفع ظلم الظالمين عنهم، ففعل واحتسب ما فعله عند ربه، لأن المجاهد إنما يجاهد في سبيل الله واعتبر جهاده ذاك رحمة من الله تعالى بعباده.. كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً} [الكهف:94-98].
والجهاد في سبيل الله يحقق الرحمة للبشرية في الأرض ودفع الظلم والاعتداء، لأن رسالة الإسلام ذاتها التي شرع الله فيها الجهاد، هي رحمة للناس جميعا، كما قال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء (107)]
ترى لو أن علم الجهاد مرفوع الآن، أتبقى البشرية تحت وطأة الظالمين الذين يملكون القوة والأسلحة الفتاكة التي يهددون بها أمن العالم ويعتدون على ضرورات حياته، من نفس ودين ومال ونسل وعقل؟
الجواب في هذه الآيات: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ * أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:38-41].
واقرأ هذه المقارنة بين الجهاد في سبيل الله الذي استمر ثماني سنوات في عهد الرسول صَلى الله عليه وسلم، والحرب العالمية الأولى التي استمرت أربع سنوات فقط وما حققه الجهاد في سبيل الله من سعادة شاملة للبشرية كلها، إن هي أرادت هذه السعادة، مع قلة الخسائر الناتجة عنه.. وما كان من آثار الحرب المذكورة من خسائر في النفوس والأموال عدا خسائرها الاجتماعية وما إليها.
قال شيخنا العلامة أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله: "وقد قسم الإسلام العالم البشري إلى قسمين فقط: أولياء الله وأولياء الشيطان، وأنصار الحق وأنصار الباطل، ولم يشرع حرباً ولا جهاداً إلا ضد أنصار الباطل وأولياء الشيطان أينما كانوا ومن كانوا.. فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76].
وهذه الحروب التي لم يشهد التاريخ أيمن منها وأقل إراقة للدماء وذهاباً بالنفس، ولا أعود منها على الإنسانية بالصالح العام والخير المشترك والسعادة جمعاء، فلا يربو عدد المقتولين من الفريقين (المسلم والكافر) في جميع الغزوات والسرايا والمناوشات التي ابتدأت من السنة الثانية للهجرة ودامت إلى السنة التاسعة على ألف وثمانية عشر نفساً، المسلمون منهم 259، والكفار 759. [قال المؤلف في الحاشية: عولنا في هذه الأعداد على إحصاء مؤلف السيرة النبوية الشهير القاضي محمد سليمان المنصور فوري، في المجلد الثاني من كتاب: سيرة رحمة للعالمين ولم يغادر من الغزوات والبعوث والمناوشات صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.. أما إحصاءات غيره من المؤرخين فإنها تمثل عدداً أقل من هذه الأعداد. أ.هـ.].
أما المصابون في حرب 1914- 1918 الكونية، فبلغ عددهم على الأصح واحداً وعشرين مليون نسمة، عدد المقتولين منهم سبعة ملايين، وقدر "المستر مكستن" عضو البرلمان الإنجليزي أن المصابين في الحرب الثانية الكبرى 1939 لا يقل عددهم عن خمسين مليوناً وقد كلف قتل رجل واحد في الحرب الأولى عشرة آلاف جنيه، أما نفقات الحرب الثانية لساعة واحدة فمليون من الجنيهات. ثم كانت الحروب الدينية الإسلامية حاقنة للدماء عاصمة للنفوس والأموال وفاتحة عهد السعادة والغبطة في العالم. أما حرب التنافس والحمية الجاهلية التي تدعى الحرب الكبرى، فقد كانت مقدمة حروب متسلسلة. [ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص223 وما بعدها..].
والخلاصة إن للجهاد في سبيل الله ثمرات تسعد المسلمين وغيرهم من أهل الأرض، وتحقق رضا الله بإعلاء كلمته ورفع رايته وتحكيم كتابه وسنة رسوله صَلى الله عليه وسلم، وتنشر الأمن والعدل والسلام وتقضي على الظلم، وتمحص المؤمنين ويتخذ الله الصفوة منهم شهداء، يحقق لهم الحياة الأبدية العاجلة، ويفضح المنافقين الذين يندسون في صفوف المؤمنين للإفساد والغدر، فيظهرون بالجهاد في سبيل الله على حقيقتهم الخبيثة الماكرة.
وكل أهداف الجهاد في سبيل الله التي ذكرت في الفصل الأول من الباب الثاني من هذا البحث تعد من ثمرات إقامة الجهاد في سبيل الله.
المصدر... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|