07-28-2015, 11:12 AM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 377,285
|
|
(0162)الجهاد في سبيل الله-الفرع الخامس: الرضا بالدون
هذا الفرع يعد أخطر الفروع في هذا الباب، لأن المسلم إذا وقع تحت سيطرة الكفار واستعبد جسمه وانتهك عرضه واحتلت أرضه واغتصب ماله وهو مكره في ذلك كله، لا يلحقه إلا ضرر مادي مؤقت - وإن طالت مدته - لأن عزته وكرامته وعلو قدره، ما زالت تملأ قلبه وتحرك أحاسيسه ومشاعره وهو ماض في سبيل ربه عازم على إعادة دولة الكفر إلى وضعها الطبيعي: سقوطها وإذلال أهلها والقضاء على رؤوسها، وعلى إعادة دولة الإسلام إلى وضعها الطبيعي كذلك: إقامتها وإعلاء شأنها ورفع رايتها وقوة أهلها وقيادتهم للبشر إلى الله.
الناس يظنونه - وهو تحت وطأة الكفار - عبداً، وهو حر حرية خالصة لا تشوبها شائبة، لأن قلبه مملوء بالإيمان بالله.. ويظنونه ضعيفاً، وهو يشعر بقوة لا تعدلها قوة.. لأنه يعتمد على الله والله غالب على أمره ولا غالب له.. ويحسبونه فقيراً، وهو على يقين بأنه غني، لأن خزائن الغنى بيد الله وليست بيد الطغاة، وإن بدوا في ظاهر الأمر هم أرباب الغنى والقوة والسيادة في الأرض.
هذا هو شأن المسلم الحق الذي لا زال معتزاً بربه متمسكاً بدينه مستهيناً بقوى الأرض، وإن كبلت يداه وقيدت رجلاه ووضعته في مكان ضيق لا يطيق الحركة بجسده فيه، فإن آفاقه التي يعيش فيها ويأمل من ربه أن ينالها أوسع من أرض الطغيان.. ولابد أن يتحرك يوماً ويكسر القيود ويقطع الأغلال، ويقضي على ذوي الظلم ويتسلم القيادة ليقود الناس إلى النور الرباني: الإسلام.
ولكن الكارثة القاتلة، والطامة المهلكة، أن يفقد استعلاء الإيمان في نفسه، وعزته بربه وبدينه، وتسكن في قلبه الهزيمة النفسية، فيشعر بأن عدوه عزيز، وأنه هو ذليل، وأن تلك العزة الكافرة لا تُغلب، وأن هذه المذلة لا تزول، وأن الخضوع للواقع أمر لا بد منه.. وذلك هو عين الرضا بالدون، وهنا يصبح الجسم حياً والقلب ميتاً، وما لجرح بميت إيلام؟
إن الأول لا زال حراً عزيزاً، يعد العدة ليوم اللقاء الذي ينصره الله على عدوه.. وإن الثاني أصبح ذليلاً مستعبد الجسم والقلب رضيت نفسه بالواقع، وإن كان مؤلماً، فإنه لا قدرة له في مقاومته - في زعمه - وسيبقى كذلك ما لم يغير ما بنفسه من هزيمة.
الأول يقول دائماً: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: من الآية249]. والثاني يقول: {لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِه} ..
الأول يقول: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]. والثاني يقول: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24].
لهذا قال ابن تيمية رحمه الله مبيناً ضرر الرضا بالدون، وهو أن يسترق القلب:
"فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استعبد بدنه واسترق لا يبالي إذا كان قلبه مستريحاً من ذلك مطمئناً، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص، وأما إذا كان القلب الذي هو الملك رقيقاً مستعبداً متيماً لغير الله، فهذا هو الذل والأسر المحض والعبودية لما استعبد القلب...". إلى أن قال: "فالحرية حرية القلب والعبودية عبودية القلب..". [مجموع الفتاوى (10/186)].
ومن مظاهر الرضا بالدون إكبار أعداء الله وتعظيمهم، ومحبة التشبه بهم فيما هو من خصائص دينهم.. وكذلك سلوك سبلهم في الأخلاق والمعاملات التي لا يقرها دين الله أو حضور أعيادهم وإظهار الرضا عنهم أو بتصرفاتهم، وهذا التقليد يدل على اعتقاد المقلد الكمال فيمن قلده.
قال ابن خلدون رحمه الله: "ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه، وسلاحه في اتخاذها وأشكالها، بل وفي سائر أحواله.. "إلى أن قال: "وانظر إلى كل قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زي الحامية وجند السلطان في الأكثر لأنهم الغالبون لهم، حتى إنه إذا كانت أمة تجاور أخرى ولها الغلب عليها فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير.. كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة.. فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم ،والكثير من عوائدهم وأحوالهم حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت، حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء والأمر لله. وتأمل في هذا سر قولهم: "العامة على دين الملك" فإنه من بابه إذ الملك غالب لمن تحت يده، والرعية مقتدون به لاعتقاد الكمال فيه اعتقاد الأبناء بآبائهم، والمتعلمين بمعلميهم ...". [المقدمة ص147].
والذي يتأمل أحوال المسلمين اليوم دولاً وشعوباً - إلا ما شاء ربك وقليل ما هم - يرى ولوعهم بأعداء الله وتقليدهم في كل شيء - إلا الجد في الأمور والحرص على الاستقلال والقوة . وما ذلك إلا لذل المسلمين واعتقادهم الكمال في غيرهم.
حتى إنك لتسمع زعماء الشعوب الإسلامية، إذا اختلفوا في أمر من الأمور السلبية -في الغالب- قال أحدهم: هذا الأمر قد سبقتنا إليه الدول العظمى أو الدول المتحضرة، وفي مقدمة الدول العظمى: الولايات المتحدة الأمريكية.
ولكن هذا الأمر يعد طبيعياً ما دام المسلمون غير متمسكين بدينهم وماداموا قاعدين عن الجهاد في سبيل الله، وقد أخبر به الرسول صَلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرناً من الزمان فجاء كما أخبر صَلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضِي الله عنه: "عن النبي صَلى الله عليه وسلم قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شِبراً شبراً وذراعاً ذراعاً، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم) قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: (فمن ؟). وفي رواية من حديث أبي هريرة: "فقيل: يا رسول الله كفارس والروم؟ قال: (ومن الناس إلا أولئك). [البخاري رقم7319، فتح الباري (13/103) ومسلم (4/2054)].
قال ابن حجر رحمه الله: "وأخرج ابن أبي خيثمة من طريق مكحول عن أنس.. قيل: يا رسول الله متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: (إذا ظهر فيكم ما ظهر في بني إسرائيل، إذا ظهر الأدهان في خياركم، والفحش في شراركم، والملك في صغاركم، والفقه في رذالكم). [فتح الباري (13/301)]. ومعنى هذا أن تقليد الأعداء يلازم القعود عن الجهاد في سبيل الله، لأن قمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الجهاد في سبيل الله.
المصدر... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|