من ذكريات الحج (1) مقال نادر عن الحج
[*]
الشيخ طه محمد الساكت
نشر هذا المقال في مجلة الإسلام
السنة العاشرة - العدد 17 26ربيع الآخر 1360هـ - 23 مايو 1941م
لا أريد أن أتحدَّث إلى قرَّاء "الإسلام" عن نفقات الحجِّ وتكاليفِه، ولا عن مناسِك الحجِّ وأحكامه، ولا عن وَصف الرِّحلة والمشاهدات، ولا عمَّا يَلزم الحاجَّ من عدَّة وعتاد، ولا عن توفير الأمن والرَّاحة ولَذَّة المشقَّة - إن كانت - في سبيل الله؛ فكلُّ ذلك فيما أرى مِن الحديث المكرَّر المُعاد، وقد سَبقني إلى الإفاضة في هذه الموضوعات كُتَّابٌ أفاضل لم يتركوا قولاً لقائل، ومنهم من ألَّف فيها مؤلَّفاتٍ؛ وإنَّما أريد أن أتحدَّث بإيجاز عن أمور أربعة أثَّرَت في نفسي تأثيرًا عميقًا: منظر واحِد مؤلِم، ومناظر ثلاثة سارَّة، والحمد لله إذ غلَب الخيرُ الشرَّ والسرورُ على الألَم.
أمَّا المنظر المؤلِم، فهو كَثرة المحتاجين والسَّائلين والملحِفين، كثرةً تقطِّع القلبَ، وتفتِّت الكبدَ، وتستدرُّ العيون؛ لا تَطأ قدماك موقفًا من المواقف، ولا تكاد تستقرُّ في مرحلةٍ من المراحل، من "جدَّة" فما فوقها، إلى المدينة المنورة فما بعدها، إلاَّ اكتنفَك مئات ومئات؛ من أطفالٍ خاشعين، ورجالٍ ضارعين، ونساء بائسات، وكلٌّ من هؤلاء يستجديك ويَستعطفك بمؤثِّر العبارات، ونزف العَبرات، وزاد في الألَم والأسى قلَّةُ المطر، بل احتباسه في هذا العام، مع قِلَّة الوافدين إلى بيت الله الحرام؛ فكان من وراء هذا جَدبٌ في الزَّرع، وقَحط في الضَّرع، وكَسادٌ في التجارة، وضَنك في الموسم، إلاَّ أنَّ رحمة الله سبقَت غضبَه؛ فأَنقذ هؤلاء البائسين بما وَضع في قلوب المصريِّين من عطفٍ وحنان، فمدُّوا يدَ الإحسان أفرادًا وجماعات، وكان لهم السَّبق في تَخفيف هذه الويلات، وكان للبعثة المصريَّة وللوفدِ المصري وللمحسنِين المخلِصين أمثال المغاري باشا أثرٌ أيُّ أثَر في تفريج هذه الكُربة العامَّة، وايم اللهِ إنَّها لِبركة دُعاء الخليل إبراهيم والحبيبِ محمدٍ عليهما الصَّلاة والسلام، وجزى الله المحسنين خير الجزاء.
أمَّا المناظر السارَّة:
فأولها: اتِّحاد الجامعتَين الأزهريَّة والمصرية اتِّحادًا وثيقًا، أساسُه الأخوَّة الخالصة، والتفاهُم الحسن، والإخلاص لله، وقد أدَّى ذلك إلى الغاية المرجوَّة، والطَّلِبَة المنشودة.
وثانيها: إكرام المصريِّين والحفاوة بهم، وبَذل العناية في توفير رَاحتهم، ولقد سَمعنا من جَلالة الملك ملكِ الحجاز سَمْع الآذان: إنَّنا لنعرف المصريَّ من بين عشرات الألوف، وإنَّ لِحجَّاج بيت الله الحرام عامَّة والمصريِّين خاصَّة منزلةً رفِيعة عالية.
وثالثها: اعتدال الوهَّابيِّين في محادثتهم ومعاملتهم للحُجَّاج؛ فلم أرَ منهم ما كنَّا نسمع من شِدَّة وغِلظة وتَكفيرٍ، إلى غير ذلك ممَّا يفرِّق بين المسلمين ويخذِّلهم، ولقد رأيتُ بنفسي كثيرًا من عُقلائهم ينعون على أولئك الفسَّاق الغِلاظ، ويَذكرون أنَّهم منفردون فتَّانون لا يَصلحون لدعوةٍ ولا إرشاد، وشاهدتُ كذلك بنفسي القائمينَ على الحجرة النبويَّة الشريفة وهم يلاطِفون الناسَ إذا همُّوا أن يقيلوا أو يتمسَّحوا، ويدفعونهم بالتي هي أَحسن.
وسأقصُّ على قرَّاء الإسلام في الكلمة التالية إن شاء الله تعالى حديثًا طريفًا جرَى بيني وبين شَيخ علماء المدينة المنورة، كلُّه مُحاسَنة ومُلاطفة ورِفقٌ واعتدال، وإنَّما اكتفينا بهذا القَدر مراعاة للقَصد والفضل؛ لِقلَّة الورَق وغلائه، ونحن أحوجُ ما نكون إلى قِلَّة القول وكَثرة العمل، ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216].
(يتبع..).
[*] نشرنا هذه الذكريات وما يتَّصل بها بمجموعة التاريخ؛ لأنَّها أَليق بها وأَجدر وإن اتَّصلَت بالأخلاق والوعظ؛ (الساكت).
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك