المصادر الجغراسية للقوة
تأليف الدكتور: لويد جنسن
ترجمة
الدكتور محمد بن أحمد مفتي
الدكتور محمد السيد سليم
تتمتع بعضُ الدول بقوة أكبرَ نتيجة لظروفِها الجغرافية؛ فالدولُ تختلف من حيث مدى وَفْرة الموارد، والحجم، والأرض القابلة للزراعة، والموقع، وتؤثِّر كل هذه العوامل على قوة الدولة وعلى الدورِ الذي تستطيعُ أن تلعَبَه في النسق الدولي، فتؤثِّرُ الموارد التي تمتلُكها الدولة في ثروتها وفي قدرتها على اتباعِ سياسة خارجية مستقلَّة، ومن المؤكد أنه لا توجَدُ دولة في العالم الصناعي المعقَّد المعاصر تمتلك من الموارد ما يكفي لاتباعها سياسةً مستقلة استقلالاً كاملاً، وعلى الرغم من أن الولاياتِ المتحدة تُعَدُّ أكثرَ الدول امتلاكًا للموارد، فإن أزمة النفطِ أوضحت أنه حتى القوتان المسيطرتان قابلتان للتأثُّرِ بالقوى الخارجية.
كذلك يُعَدُّ امتلاكُ إقليم شاسع من العوامل التي تؤدِّي إلى زيادة الموارد والمساحة القابلة للزراعة المتاحة للدولة - من ناحية - وإلى توافرِ مجال للتراجع العسكري وإعادة تنظيم القوات في حالة الغزو الخارجي، كما فعَل الروس أثناء الغزو النابليوني عام 1812م، والغزو الألماني عام 1941م، ولا تتوافرُ هذه الفرصة للدول الصغيرة، التي يمكن هزيمتُها سريعًا، كما يتضحُ من غزو ألمانيا الهتلرية السريع للأراضي الواطئة في أوروبا، بَيْدَ أنَّ اتساعَ إقليم الدولة يعقِّدُ من مشكلة الاتصال بين مختلف أجزاء الدولة، مما يجعَلُ إيجاد اقتصاد وطني متكامل وكفء أمرًا صعبًا، ومصداقًا لذلك يرى البعضُ أن أحدَ أسباب نجاح عملية التنمية الاقتصادية في اليابان، هو أن سكان اليابان - البالغ عددهم حوالي مائة مليون نسمة يعيشون في مساحة صغيرة - قد وفَّروا سوقًا داخلية للمنتجات الصناعية "وشبكة اتصال مترابطة أدَّتْ إلى زيادة كفاءة الأنشطة الاقتصادية"[1].
كذلك يؤثِّرُ موقع الدولة في قوتها وسياساتها، فمن الناحية التاريخية، وفَّرت البحارُ الحماية للقوى البحرية ضد الغزو الخارجي، ومن ذلك الدور الذي لعبه القنال الإنجليزي في حماية بريطانيا من الغزو الألماني أثناء الحرب العالمية الثانية، ورغم أن التقنيةَ العسكرية الحديثة، والتي مكَّنتِ الدولَ من إلحاقِ الدمار من مسافات بعيدة، قد قوَّضت مِن أمن الدول المعزولة، فإن الموقعَ الجغرافيَّ تظلُّ له أهميةٌ في إمكانِ هزيمة الدولة ما دام من الضروري إنزالُ القوات الغازية على تلك الدولة.
إضافة إلى أن طبوغرافية الدول تؤثِّرُ على قوتها وأمنها؛ فالجبال - على سبيل المثال - توفِّرُ حواجزَ طبيعية ضد الغزو الخارجي؛ إذ من الميسور تحريكُ الجيوش الحديثة عبر الأراضي المستوية؛ ولذلك فإن الدول اعتادت على استعمالِ مسالك معيَّنة للغزو، منها على سبيل المثال: مسالكُ الغزو عبر بولندا، وعبر الأراضي الواطئة في غرب أوروبا، وقد أدرَك الاتحادُ السوفيتي خلال تدخُّلِه العسكري في أفغانستان عام 1979م، الدَّورَ الذي تلعَبُه التضاريسُ الجغرافية في عدم قدرتِه على التمكُّنِ من هذه الدولة.
وقد قدَّم بعضُ الكتَّاب الجغراسيين نظرياتٍ معينةً حول آثار البيئة الجغرافية للدولة على سياستِها الخارجية، منهم الكاتبُ البريطاني السير هالفورد ماكنيدر، والذي أوضَح في كتاب أصدره عام 1919م أن العنصرَ الحاسمَ في القوة العالمية هو السيطرةُ على قلب القارة الأوراسية، والتي تتكوَّنُ في معظمِها من الجزء الأوروبي من الاتحاد السوفيتي[2]؛ فالسيطرة على هذا القلب ستمكِّنُ الدولةَ من السيطرة على الجزيرة العالمية التي تتكوَّنُ من أوروبا، وآسيا، وإفريقيا، وهذا بالتالي يمكِّنُ الدولةَ من السيطرة على العالم بأَسره، بَيْدَ أنَّ ماكيندر عدَّل نظريته تلك عام 1943م مقترِحًا أن إقليم شمال الأطلنطي - ومن خلال استعمال القوة الجوية - قد يحقِّقُ التوازنَ إزاء التهديد السوفيتي الناشئ بعد هزيمة ألمانيا[3].
وقد اعترض سبايكمان على نظريةِ ماكيندر؛ فقد أوضح أن القوى الهامشية - كاليابان، وبريطانيا - هي الأقوى والأكثر تمكُّنًا من السيطرة على قلب القارة الأوراسية[4]، كذلك فالسيطرةُ على إقليم شمال الأطلنطي ربما لا تؤدِّي إلى السيطرةِ على العالم، نتيجة قسوة المناخ فيه، وطبيعته الزراعية، وافتقاره إلى الموارد.
ويرى الأدميرال ألفريد ماهان أن زيادةَ القوة البحرية هي أفضلُ طريقٍ لتوفير القوة والأمن للدولة، وينطبقُ ذلك بشكلٍ أخصَّ - في نظر ماهان على الولايات المتحدة - نظرًا لأنها تُطِل على المحيطين الأطلنطي والهادي[5]، كذلك فقد أدَّى استيلاء الولايات المتحدة على جزر الفلبين وغيرها من جُزر المحيط الهادي إلى جَعْل القوة البحرية أمرًا حيويًّا لضمان استمرار السيطرة على تلك الجزر، كذلك فإن بريطانيا لم تكُنْ في حاجة إلى بناءِ جيش كبير، وركَّزت على بناء قوة بحرية كبرى نتيجة موقعها الجغرافي البحري المنعزل، ويُعَد رجالُ البحرية الأمريكية المعاصرون وأنصار تطوير الغواصات القاذفة للصواريخ البلاستيكية من أهمِّ أنصارِ نظرية ماهان في الولايات المتحدة اليوم.
ويمكِنُ أن نقدِّمَ مثالاً أخيرًا للنظريات الجغراسية من نظرية كارل هاو شوفر، المسماة بنظرية "المجال الحيوي"، وهي النظريةُ التي استغلَّها أدولف هتلر فيما بعد[6]؛ فقد انطلق هاوشوفر من الأفكارِ الداروينية الاجتماعية، وطوَّر فكرةَ الدولة العضوية التي يتحتمُ عليها أن تتوسَّع باستمرارٍ في مجال حيوي معين، وإلا حُكِم عليها بالفَناء، كان هاوشوفر يرى ضرورةَ إنشاء ائتلاف من القوى العالمية مكوَّنٍ من الاتحاد السوفيتي، واليابان، والصين، والهند، تحت الزعامة الألمانية.
تُعَد الأبحاثُ التي تناولت قضية الحدود أهمَّ الأبحاث المنهجية التي تناولت أثَرَ العوامل الجغرافية على السياسة الخارجية؛ فقد سلَّم معظمُ الباحثين بأن الحدودَ الدولية هي أحدُ العوامل المؤثرة في الصراعات الدولية، بل إن ليوارد يذهَبُ إلى حد القول: إنه ربما كانت المنازعات الإقليمية "أهم مسبِّب للكروب بين الدول خلال القرنين والثلاثة القرون الأخيرة"[7]، وتتجلى أهمية قضية الحدود في منازعات الشرق الأوسط الدولية، خاصة في الصراعِ بين العرب وإسرائيل، والحرب بين إيران والعراق.
وقد أظهرت الدراساتُ الإحصائية أن الدولَ ذات الحدود الطويلة أكثرُ ميلاً إلى الدخول في عددٍ أكبرَ من الصراعات الدولية من تلك الدول ذات الحدود القصيرة؛ فقد أوضحت بحوث ريتشاردسون - التي تناولت تحليلَ سياسات ثلاث وثلاثين دولة خلال الفترة من عام 1820م حتى 1945م - أنه توجَدُ علاقةٌ إيجابية بين عددِ الدول المتاخمة لحدود الدولة ودخول الدولة في حروب طاحنة، وهي الحروبُ التي يتعدَّى عددُ القتلى فيها سبعةَ آلاف نسمة[8]، وقد انتقَد بعضُ الباحثين تحليل ريتشاردسون على أساس أن عددَ الدول المتاخمة ليس مؤشرًا كافيًا للتجاور الجغرافي؛ لذا فمن الضروري أن نُدخِل في اعتبارنا طولَ الحدود، وكثافةَ سكان المناطق الحدودية إلى هذينِ المؤشِّرين اللذينِ يحدِّدان احتمالات التفاعل بين الدول المتجاورة جغرافيًّا، ولكن عندما طُبِّق هذان المؤشران تبيَّنت صحةُ النتيجة التي انتهى إليها ريتشاردسون[9].
وقد أوضحت الدراساتُ المنبثقة عن مشروع "محددات الحرب" - والذي استنَد على بيانات القرنين التاسع عشر والعشرين - أنه كلما ازداد عددُ الدول المتاخمة للدولة، ازداد عددُ احتمال امتداد حروب تلك الدولة من جبهة إلى أخرى[10]، كذلك توصَّلت دراسةٌ أخرى إلى أن احتمال اتساع نطاق الحروب يزدادُ إذا اندلعت في قلب القارة الأوروبية عما إنْ بدأت في تخومها[11]، كذلك يبدو أن التجاورَ الجغرافي يؤثِّرُ في تدخُّل بعض الدول الإفريقية لمساعدة حركات التحرُّر الوطني في الدول المجاورة الأخرى داخل القارة[12]؛ إذ مِن الواضح أنَّ تدخُّل دولة في دولة متاخمة أسهلُ بكثير من تدخُّلها في دولة غير متاخمة.
وفي تحليل العلاقة بين التقارُبِ الجغرافي والسلوك الصراعي الخارجي، يجب أن نتذكَّرَ ما كتبه رست من أنه "ما عدا حالة منازعات الحدود، فإن الدولَ لا تقاتل بعضها بعضًا؛ لأنها متقاربةٌ جغرافيًّا، ولكن لأن التقاربَ الجغرافي يخلُقُ فرصًا أوفرَ للقتال، فالتقاربُ الجغرافي يصبح بمثابة العامل المساعد، وليس السببَ المؤدي إلى الحرب"[13]، ومع تطوُّرِ التقنية الحديثة، فإنه ربما تكون أهميةُ عنصر المسافة الجغرافية قد قلَّتْ كعامل مؤثِّر على إمكان الهجوم.
وعلى الرغم من أن التجاورَ الجغرافي يساعدُ في إيجاد فرص الصراع بين الدول المتجاورة جغرافيًّا، فإن الدولة التي تجاور دولةً أكبر منها قد تجني القوةَ والأمن نتيجة هذا التجاور، خاصة إن كانت الدولةُ الكبرى تسعى لإقرار الوضع الراهن، ولا تهدِّد أمن الدولة الصغرى، وعلى سبيل المثال، فإن كندا متأكدةٌ من أن الولايات المتحدة ستهُب إلى نجدتها إن هددَتْها قوة خارجية، كما أنه نظرًا إلى أهمية موقعها الإستراتيجي، فإن الولاياتِ المتحدة تستجيب لاحتياجاتِها الدفاعية بدرجةٍ تفُوق استجابتها لاحتياجات بعض الدول الحليفة البعيدة جغرافيًّا.
كذلك، يؤثِّرُ التجاور الجغرافي في إمكانات التكامل السياسي الدولي، فقد أوضحت دراسةٌ إحصائية قام بها كوب والدار أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين التجاور الجغرافي وبين تفاعل الدول المتجاورة جغرافيًّا تفاعلاً دوليًّا مكثفًا[14]؛ فالدول التي تجمع بينها حدودٌ واحدة تفضِّل الدخول في محالفات، وعلى أقل تقدير، فإنه إن وجدت الدولةُ نفسَها تجاورُ دولة أقوى منها، فإنها قد تضطرُّ إلى اتخاذ موقف الحياد، إن لم يكنِ الانحياز إلى تلك الدولة.
وترجِعُ الصعوباتُ التي واجهتها باكستان في توثيق الوحدة بين شطريها الغربي والشرقي، إلى أن هذين الشطرينِ كانت تفصلُهما آلاف الأميال من الأقاليم الهندية، وقد انتهت تلك الوحدة عام 1971م عندما انفصَل القسمُ الشرقي مشكِّلاً دولةً مستقلة باسم بنجلاديش، كذلك لم تعِشِ الجمهوريةُ العربية المتحدة - التي كانت مكونة من دولتين منفصلتين جغرافيًّا، وهما: مصر وسوريا - طويلاً، كما أن احتمالاتِ دخول سوريا وليبيا غير المتجاورتين جغرافيًّا في وحدة سياسية واقتصادية وعسكرية لا تبدو مشجعةً.
وبصفة عامة، فإن الدول ذات الحدود الطبيعية - كإسبانيا وفرنسا وبريطانيا - أكثرُ استقرارًا وأقلُّ عُرضةً للدخول في منازعات حدودية من تلك الدول ذات الحدود المصطنعة؛ كدول شرق أوروبا وألمانيا والنمسا[15]، ومن ثَم فلا غروَ إن حاولت بعضُ الدول مدَّ سيطرتها إلى حدودها الطبيعية على غرار محاولة فرنسا مَدَّ حدودِها حتى جبال البرانس، والبحر المتوسط، ونهر الراين.
وهناك متغيِّرات جغرافية أخرى تؤثِّر على خيارات السِّياسة الخارجية، منها على سبيل المثال: مدى توافر المواد الخام، وحجم الأرض القابلة للزراعة، والظروف المناخية، ولكن تلك المتغيرات تؤثِّر على خيارات السياسة الخارجية من خلال تأثيرِها على قوة الدولة الاقتصادية والعسكرية، وهو الموضوعُ الذي سنتناولُه في القسم التالي.
[1] Michio Royama, "Environmental Factors and Japan in the 1970s," in Morton A. Kaplan and Kinhide Mushakoji, ed., Japan, America, and the Future World Order (New York: Free Press, 1976, p. 344.
[2] Sir Halford Mackinder, Democratic Ideals and Realities (New York: Norton, 1962; first published in 1919.
[3] Colin S. Gray, The Geopolitics of the Nuclear Era (New York: Crane and Russak, 1977), p34..
[4] Nicholas J. Spykman, The Geography of Peace (New York: Harcourt Brace Jovanovich, 1944, p. 43.
[5] Alfred T. Mahan, The Influence of Sea Power in History, 1660-1783 (Boston: Little, Brown,1918.
[6] Andreas Dorpalen, The World of General Haushofer (New York: Farrar and Rinehart, 1942, reprinted by Kennikat).
[7] Evan Luard, Conflict and Peace in the Modern International System (Boston: Little, Brown, 1968 ) p. 111.
[8] Lewis F. Richardson, Statistics of Deadly Quarrels (New York: Quadrangle/The N.Y. Times, 1960, ) p. 176.
[9] James Paul Wesley, "Frequency of Wars and Geographical Oportunity," Journal of Conflict Resolution, 6 (December 1962), 387-89.
[10] Harvey Starr and Benjamin A. Most, "The Substance and Study of Borders in International Relations Research," International Studies Quarterly, 20 (December 1976), 581-620; Manus Midlarsky, On War (New York: Free Press, 1975).
[11] Geoffrey Blainey, The Causes of War (New York: Free Press, 1973), p. 232.
[12] Vincent B. Khapoya, "The Politics of Decision: A Comparative Study of African Policy. Toward Liberation Movements," University of Denver Social Science Foundation Monograph, 12 (1974-75).
[13] Bruce M. Russett, International Regions and the International System (Chicago: Rand McNally, 1967), p. 200, emphasis in original.
[14] Roger W. Cobb and Charles Elder, International Community (New York: Holt, Rinehart and Winston, 1970.)
[15] Robert G. Wesson, State Systems (New York: Free Press, 1978), p. 111.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك