07-12-2015, 06:41 PM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 376,241
|
|
(0147)الجهاد في سبيل الله الفرع الثاني: الواقع يشهد باحترام الحق المحروس بالقوة
يكفي في هذا الفرع المقارنة بين حالة الرسول صَلى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة قبل الهجرة، وحالتهم بعد ذلك في المدينة بعد الهجرة.. فقد كانوا في مكة مستضعفين يفتنون ويعذبون، كما مضى في فصل الابتلاء في سبيل الله. أما في المدينة فقد أسس صَلى الله عليه وسلم دولة للإسلام اكتملت لها المقومات اللازمة. أرض تؤيهم وشعب آمن يطبق منهجا يسكن تلك الأرض ويحميها، وحكومة تصرف شؤون ذلك الشعب، وبدأت سرايا الرسول صَلى الله عليه وسلم وغزواته تنطلق من المدينة المنورة لمناوأة أعداء الإسلام المشركين..
ووقعت بينهم وبين المسلمين معارك كان الانتصار في الغالب للمسلمين على المشركين، وبلغت قوة المسلمين ذروتها عندما وقع الصلح بينهم وبين المشركين في الحديبية، حيث اعترف أهل الكفر بدولة تعقد المعاهدات وتفاوض وتصالح وكثر الداخلون في الإسلام.
وعندما نقضت قريش الصلح غزا رسول الله صَلى الله عليه وسلم مكة ففتحها ودخلها منتصراً مظفراً فماذا كان بعد هذا الفتح المبين؟ قال محمد بن إسحاق: "لما افتتح الرسول صَلى الله عليه وسلم مكة وفرغ من تبوك وأسلمت ثقيف وبايعت ضربت إليه وفود العرب من كل وجه، قال ابن هشام: حدثني أبو عبيدة أن ذلك في سنة تسع وأنها كانت تسمى سنة الوفود.... قال ابن إسحاق: وإنما كانت العرب تربص بإسلامها أمر هذا الحي من قريش، لأن قريشاً كانوا إمام الناس وهاديتهم وأهل البيت والحرم وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم وقادة العرب لا ينكرون ذلك.. وكانت قريش هي التي نصبت الحرب لرسول الله صَلى الله عليه وسلم وخلافه، فلما افتتحت مكة ودانت له قريش ودخولها الإسلام عرفت العرب أنهم لا طاقة لهم بحرب رسول الله صَلى الله عليه وسلم ولا عداوته، فدخلوا في دين الله كما قال عز وجل أفواجا يضربون إليه من كل وجه". [البداية والنهاية (5/40)].
وقد روى عمرو بن سلمة حديثاُ صريحاً في تربص العرب بإسلامهم وانتظارهم ما يؤول إليه أمر الرسول صَلى الله عليه وسلم، من قوة يسيطر بها على قريش أو ضعف، وذلك بسيطرة قريش عليه وعلى أصحابه.. قال عمرو بن سلمة: "كنا بممر الناس وكان يمر بنا الركبان، فنسألهم ما للناس ما للناس؟ ما هذا الرجل فيقولون: يزعم أن الله أرسله، أوحى إليه أو أوحى الله بكذا فكنت أحفظ ذاك الكلام فكأنما يقر في صدري، وكانت العرب تقوم بإسلامهم الفتح، فيقولون اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق.. فلما كانت وقعة أهل الفتح، بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي صَلى الله عليه وسلم حقاً.." الحديث. [البخاري رقم 4302 فتح الباري (8/22)].
واستمر الحال كذلك بعد وفاة رسول الله صَلى الله عليه وسلم، فكان الجهاد هو الذي يؤدب العصاة والكفرة ويجبرهم على الخضوع للإسلام واحترام أهله.. ولقد كان أبو بكر الصديق رضِي الله عنه مدركاً ذلك تمام الإدراك، فكان له موقفان في حادثتين أعز الله بهما الإسلام والمسلمين وجمع أهل الجزيرة العربية بعد فرقة وردهم إلى سبيل الله بعد أن ضل عنه أكثرهم.
الموقف الأول: تصميمه على إنفاذ بعث جيش أسامة الذي عقده رسول الله صَلى الله عليه وسلم قبل وفاته، على الرغم من أن غيره من الصحابة كانوا يرون عدم إنفاذه، ليكون سنداً للمسلمين في المدينة بعد وفاة الرسول صَلى الله عليه وسلم، وما نجم بسبب ذلك من ارتداد الناس والخوف من تألب المرتدين والمنافقين، على أصحاب رسول الله صَلى الله عليه وسلم الذين أصبحوا بعد وفاة نبيهم كالأيتام الذين فقدوا أباهم وهم صغار.. وقد كان لهذا الموقف الجهادي الذي وقفه الصديق رضِي الله عنه أثره الفعال، في إنزال الرعب بالقبائل العربية التي مر بها والتي سمعت به فثبتوا على الإسلام بعد أن عزموا على الارتداد.
قال ابن كثير رحمه الله: "فصل في تنفيذ جيش أسامة بن زيد الذين كانوا قد أمرهم رسول الله صَلى الله عليه وسلم بالمسير إلى تخوم البلقاء من الشام حيث قتل زيد بن حارثة وابن رواحة، فيغزوا على تلك الأراضي فخرجوا إلى الجرف فخيموا به.. وكان بينهم عمر بن الخطاب، ويقال أبو بكر فاستثناه رسول الله صَلى الله عليه وسلم منهم للصلاة، فلما ثقل رسول الله صَلى الله عليه وسلم أقاموا هنالك.. فلما مات عظم الخطب واشتد الحال ونجم النفاق بالمدينة وارتد من ارتد من أحياء العرب حول المدينة... والمقصود أنه لما وقعت هذه الأمور أشار كثير من الناس على الصديق ألا ينفذ جيش أسامة لاحتياجه إليه فيما هو أهم لأن ما جهز بسببه في حال السلامة..
وكان من جملة من أشار بذلك عمر بن الخطاب، فامتنع الصديق من ذلك وأبى أشد الإباء إلا أن ينفذ جيش أسامة، وقال: والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله صَلى الله عليه وسلم، ولو أن الطير تخطفنا والسباع من حول المدينة ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزن جيش أسامة وآمر الحرس يكونون حول المدينة.. فكان خروجه في ذلك الوقت من أكبر المصالح والحالة تلك، فساروا لا يمرون بحي من أحياء العرب، إلا أرعبوا منهم وقالوا ما خرج هؤلاء من قوم إلا وبهم منعة شديدة فقاموا أربعين يوماً ويقال سبعين يوماً.. ثم أتوا سالمين غانمين، ثم رجعوا فجهزهم حينئذ مع الأحياء الذين أخرجهم لقتال المرتدة ومانعى الزكاة على ما سيأتي تفصيله.
قال سيف بن عامر: عن هشام بن عروة عن أبيه قال: لما بويع أبو بكر الصديق وجمع الأنصار في الأمر الذي افترقوا فيه، قال: ليتم بعث أسامة وقد ارتدت العرب إما عامة وإما خاصة في كل قبيلة، ونجم النفاق واشرأبت اليهودية والنصرانية، والمسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم ! وقلتهم وكثرة عدوهم.. فقال له الناس: إن هؤلاء جل المسلمين، والعرب على ما ترى قد انتقصت بك وليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين، فقال: والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله صَلى الله عليه وسلم ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته..
ثم ذكر ابن كثير عن طريق البيهقي عن أبي هريرة رضِي الله عنه قوله: "والله الذي لا إله إلا هو، لولا أن أبا بكر استخلف ما عبد الله، ثم قال الثانية، ثم قال الثالثة، فقيل له: مه يا أبا هريرة؟ فقال: إن رسول الله صَلى الله عليه وسلم وجه أسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشام، فلما نزل بذي خشب قبض رسول الله صَلى الله عليه وسلم وارتدت العرب حول المدينة.. فاجتمع إليه أصحاب رسول الله صَلى الله عليه وسلم فقالوا:
يا أبا بكر رد هؤلاء، تَوَجّهُ هؤلاء إلى الروم وقد ارتدت العرب حول المدينة؟ فقال: والذي لا إله غيره لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صَلى الله عليه وسلم ما رددت جيشاً وجهه رسول الله صَلى الله عليه وسلم ولا حللت لواء عقده رسول الله.. فوجه أسامة فجعل لا يمر بقبيل يريدون الارتداد إلا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم، فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين فثبتوا على الإسلام. [البداية والنهاية (6/304-305)].
رضي الله عنك يا أبا بكر، لقد كان يدرك ما وراء خروج هذا الجيش بعد وفاة رسول الله صَلى الله عليه وسلم التي جعلت أعداء الإسلام يتطلعون للقضاء على الإسلام.. كان يدرك رضِي الله عنه ما في طاعة الله ورسوله من الخير من جهة، وما في إظهار القوة التي لا يحترم الأعداء سواها من جهة أخرى فكانت هذه النتيجة العظيمة لذلك القرار التاريخي العظيم.
الموقف الثاني: إصراره على جهاد أعداء الله الذين ارتدوا عن الإسلام، أو منعوا الزكاة، مخالفاً بذلك جمهور الصحابة رضِي الله عنهم وعلى رأسهم – كذلك - عمر بن الخطاب رضِي الله عنه، الذي ندم على رأيه الذي خالف فيه أبا بكر في أول الأمر، وكان يتمنى أن يكون صاحب هذا القرار الفذ الذي كانت نتائجه عظيمة في نصر الإسلام وإعزاز أهله وخذلان أعداء الله وإذلالهم.. فقد قال رضِي الله عنه - وقد ذكر عنده أبو بكر فبكى -: "وددت أن عملي كله مثل عمله يوماً واحداً من أيامه، وليلة واحدة من لياليه.
أما ليلته رضِي الله عنه التي سار مع النبي صَلى الله عليه وسلم إلى الغار.. فلما انتهيا إليه، قال: والله لا تدخله حتى أدخله قبلك، فإن كان فيه شيء أصابني دونك، فدخل فكسحه، فوجد في جانبه ثقباً فشق أزاره وسد به، فبقي منها اثنان فألقمهما رجليه ثم قال لرسول الله: أدخل، فدخل النبي صَلى الله عليه وسلم، ووضع رأسه في حجره ونام.. فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه النبي صَلى الله عليه وسلم، فسقطت دموعه على وجه النبي صَلى الله عليه وسلم، فقال: مالك يا أبا بكر؟ قال: لدغت فداك أبي وأمي، فتفل عليه النبي صَلى الله عليه وسلم فذهب ما يجده ثم انتفض عليه وكان سبب موته..
وأما يومه فلما قبض النبي صَلى الله عليه وسلم ارتدت العرب وقالوا لا نؤدي زكاة فقال: لو منعوني عقالاً لجاهدتهم عليه فقلت يا خليفة رسول الله تألف الناس وارفق بهم.. فقال لي: أجبار في الجاهلية وخوار في الإسلام إنه قد انقطع الوحي وتم الدين أينقص وأنا حي.. [جامع الأصول (8/605)].
وقام أبو بكر رضِي الله عنه بحرب المرتدين وجهز الجيوش لكل ناحية من نواحي الجزيرة العربية فنصر الله الإسلام وأذل الكفر.. وكانت النتيجة خلال سنة واحدة ، كما قال ابن كثير رحمه الله: استهلت هذه السنة - يعني سنة اثنتي عشرة للهجرة - وجيوش الصديق وأمراؤه الذين بعثهم لقتال أهل الردة، جوالون في البلاد يميناً وشمالاً لتمهيد قواعد الإسلام وقتال الطغاة من الأنام، حتى رد شارد الدين بعد ذهابه ورجع الحق إلى نصابه وتمهدت جزيرة العرب وصار البعيد الأقصى كالقريب الأدنى.. [البداية والنهاية (6/342)].
ترى لو أن الصديق تأخر قليلاً عن تأديب الطغاة الكافرين والعصاة المعاندين، أكان هؤلاء يحترمون الإسلام - لو تركوا على كفرهم وعصيانهم - أم يتواطأون على حربه وتدمير أهله؟.
لقد تجمع أعداء الله وغزوا المدينة وأرادوا القضاء على المسلمين، ولكن خليفة رسول الله الذي قرر الجهاد العاجل فشرح الله صدور جنده لقراره كان لهم بالمرصاد فهزمهم شر هزيمة.. وكان كما قال ابن كثير: "فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صعيد واحد، فما سمعوا للمسلمين حساً ولا همساً حتى وضعوا فيهم السيوف، فما طلعت الشمس حتى ولوهم الأدبار وغلبوهم على عامة ظهرهم... واتبعهم أبو بكر حتى نزل بذي القصة وكان أول الفتح، وذل بها المشركون وعز بها المسلمون.. [نفس المرجع (6/313)].
ومن أراد أن يعلم شهادة هذا الحدث بأن أهل الباطل لا يحترمون أهل الحق إلا بالقوة والجهاد، فليراجع كل وقعة من حروب الردة ونتائجها فإنه واجد ذلك واضحاً فيها. ومن أصرح شهادة الواقع التاريخي بهذا وقعة القادسية التي بعث كل أهل بلد من يستوضح أمرها، وما تؤول إليه من نصر أو هزيمة، لبقاء ملك العرب أو زواله، ثم رجوع من نقض العهد بعد انتصار المسلمين في هذه المعركة.. واقرأ هذا النص الذي ذكره ابن كثير رحمه الله: "وكانت العرب من العذيب إلى عدن أبين يتربصون وقعة القادسية هذه، يرون أن ثبات ملكهم وزواله بها، وقد بعث أهل كل بلدة قاصداً يكشف ما يكون من خبرهم..
فلما كان ما كان من الفتح ... وسمع ذلك في سائر بلاد العرب، وقد كانت بلاد العراق بكمالها التي فتحها خالد نقضت العهود والذمم والمواثيق التي كانوا أعطوها خالداً، سوى أهل بانقيا وبرسما وأهل أليس الآخرة.. ثم عاد الجميع بعد هذه الموقعة التي أوردناها وادعوا أن الفرس أجبروهم على نقض العهود وأخذوا منهم الخراج وغير ذلك، فصدقوهم في ذلك تألفاً لقلوبهم. [البداية والنهاية (7/46)].
وفي تتابع الوفود عبرة
ولقد شهد التاريخ – كذلك - بأن الناس يدخلون في دين الله أفواجاً إذا كان أهله أعزة. فقد كان عدد المسلمين في غزوة الحديبية ألفاً وأربعمائة، وكانت سنة ست من الهجرة، ولكنهم كانوا في غزوة الفتح عشرة آلاف مقاتل وكانت سنة ثمان من الهجرة.
وقد بلغ عدد الوفود الذين وفدوا على الرسول صَلى الله عليه وسلم بعد الفتح قريباً من خمسين وفداً.. هذه أسماؤها كما ذكرها ابن كثير رحمه الله:
وفد مضر، وفد مزينة، وفد بني تميم، وفد عبد القيس وفد بنى حنيفة، وفد أهل نجران، وفد بني عامر، وفد بني سعد بن بكر، وفد طيء، وفد دوس، وفد الأشعريين، وفود فروة المرادي، وفود عمر بن معد يكرب الزبيدي، وفد كنده، قدوم أعشى بن مازن قدوم رسول ملوك حمير، قدوم جرير بن عبد الله البجلي، قدوم وائل بن حجر الحضرمي، قدوم لقيط بن عامر العقيلي قدوم زيد بن الحارث، قدوم الحارث بن حسان البكري، قدوم عبد الرحمن بن أبي عقيل مع قومه، قدوم طارق بن عبد الله مع قومه، قدوم وافد فروة الجذامي من معان، وفد بني أسد، وفد بني مرة، وفد بني محارب، وفد بني كلاب وفد بني رواس، وفد بني عقيل ابن كعب، وفد بني البكاء، وفد كنانة، وفد أشجع، وفد باهلة، وفد بني سليم.
وفادات اليمن: وفد نجيب، وفد خولان، وفد جعفر، وفد الأزد، وفد الصدف، وفد خشين، وفد بني سعيد.. [راجع البداية والنهاية (5/41-95)].
ودانت بعد ذلك الجزيرة العربية كلها بالإسلام، وأخذ الرسول صَلى الله عليه وسلم يبعث أمراءه إلى كل البلدان.. كما أخذ يبعث رسله وكتبه إلى رؤساء الدول خارج الجزيرة: رؤساء الفرس، والروم، والقبط، والأحباش وغيرهم، يدعوهم إلى الإسلام ويرغبهم فيه ويحذرهم مغبة عدم الاستجابة له.
وهذا كله يدل أن مبادئ الحق إذا أسندتها القوة احترمها الناس وفكروا في الإيمان بها وتأييدها، وإذا كان أهلها ضعافاً استهان بهم الناس واستضعفوهم فليدرك ذلك المسلمون وليعدوا للحق عدته على الباطل وأهله.
المصدر... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|