صور من حياة إبراهيم عليه السلام (6)
إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب
كرم جمعة عبدالعزيز
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسل والنبيين، لا سيما خاتمُهم محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: ((لم يَكذِبْ إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كَذَبات، ثنتين منهن في ذات الله عز وجل، قوله: ﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ [الصافات: 89]، وقوله: ﴿ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ﴾ [الأنبياء: 63]، وقال: بَيْنَا هو ذات يوم وسارةُ، إذ أتى على جبَّار من الجبابرة، فقيل له: إن ها هنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه فسأله عنها، فقال: من هذه؟ قال: أختي، فأتى سارةَ، قال: يا سارةُ، ليس على وجه الأرض مؤمنٌ غيري وغيرك، وإن هذا سألني فأخبرتُه أنك أختي، فلا تُكذِّبيني، فأرسَلَ إليها، فلما دخلتْ عليه ذهب يتناولها بيده، فأُخِذَ، فقال: ادعي اللهَ لي، ولا أضرك، فدعَتِ اللهَ، فأُطلِقَ، ثم تناولها الثانية، فأُخِذَ مثلها أو أشدَّ، فقال: ادعي الله لي، ولا أضرك، فدعت، فأُطلِقَ، فدعا بعض حَجَبَتِه، فقال: إنكم لم تأتوني بإنسان؛ إنما أتيتموني بشيطان! فأخْدَمَها هاجرَ، فأتَتْه وهو قائم يصلي، فأومَأَ بيده: مَهْيَا، قالت: ردَّ الله كيدَ الكافر - أو الفاجر - في نَحْرِه، وأَخدَمَ هاجرَ))، قال أبو هريرة: تلك أمُّكم يا بني ماءِ السماء[1].
قال الجوهري في (الصحاح): التعريض: خلاف التصريح، يقال: عَرَّضْتُ لفلان وبفلان: إذا قلتَ قولاً وأنت تَعْنيه.
ومنه المعاريضُ في الكلام، وهي التَّوْريَةُ بالشيء عن الشيء.
وفي المثل: "إن في المعاريض لَمَنْدوحةً عن الكذب"؛ أي سَعَةً.
وقال صاحب المصباح المنير: (فالتعريض) خلاف التصريح من القول، كما إذا سألت رجلاً: هل رأيتَ فلانًا، وقد رآه ويكره أن يكذب، فيقول: إن فلانًا لَيُرَى فيجعل كلامه مُعَرضًا فرارًا من الكذب، وهذا معنى (المعاريض) في الكلام.
قال ابن قُتَيْبة رحمه الله:
"جاءت الرخصة[2] في المعاريض، وقيل: إن فيها عن الكذب مندوحةً، فمن المعاريض قولُ إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم في امرأته: إنها أختي، يريد أن المؤمنين إخوة، وقولُه: ﴿ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ﴾؛ أراد: بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون، فجعل النطق شرطًا للفعل، وهو لا ينطق ولا يفعل، وقولُه: ﴿ إِنِّي سَقِيْمٌ ﴾؛ يريد سَأسْقَمُ؛ لأن من كُتب عليه الموت والفناء فلا بد من أن يسقَمَ، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴾ [الزمر: 30]، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مَيِّتًا في وقته ذلك، وإنما أراد أنك ستموت وسيموتون"[3].
وقد أورد البخاري في (الجامع الصحيح): (باب المعاريض مندوحة عن الكذب):
وقال إسحاق: سمعت أنسًا رضي الله عنه يقول: مات ابنٌ لأبي طلحة، فقال: كيف الغلام؟ فقالت أم سُلَيْمٍ: هدَأَ نفَسُه، وأرجو أن يكون قد استراح. وظن أنها صادقة.
و ذكر الحديث بتمامه في باب: (من لم يظهر حزنه عند المصيبة)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، يقول: اشتكى ابنٌ لأبي طلحة، قال: فمات وأبو طلحة خارج، فلما رأت امرأته أنه قد مات هيَّأَتْ شيئًا، ونحَّتْه في جانب البيت، فلما جاء أبو طلحة قال: كيف الغلام؟ قالت: قد هدَأَتْ نفسُه، وأرجو أن يكون قد استراح، وظن أبو طلحة أنها صادقة، قال: فبات، فلما أصبح اغتسَلَ، فلما أراد أن يخرج أعلمَتْه أنه قد مات، فصلَّى مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما كان منهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعل الله أن يباركَ لكما في ليلتكما))[4]، قال سفيان: فقال رجل من الأنصار: فرأيت لهما تسعةَ أولادٍ كلهم قد قرأ القرآن.
قال الإمام النووي رحمه الله في (الأذكار): (باب التعريض والتورية):
" اعلم أن هذا الباب من أهم الأبواب، فإنه مما يَكثُرُ استعماله وتعمُّ به البلوى، فينبغي لنا أن نعتني بتحقيقه، وينبغي للواقف عليه أن يتأمله ويعمل به، وقد قدمنا ما في الكذب من التحريم الغليظ، وما في إطلاق اللسان من الخطر، وهذا الباب طريق إلى السلامة من ذلك.
واعلم أن التورية والتعريض معناهما: أن تطلق لفظًا هو ظاهر في معنى، وتريد به معنى آخر يتناوله ذلك اللفظ، لكنه خلاف ظاهره، وهذا ضَرْبٌ من التغرير والخِداع.
قال العلماء: فإن دعتْ إلى ذلك مصلحةٌ شرعية راجحة على خداع المخاطَب، أو حاجة لا مندوحة عنها إلا بالكذب - فلا بأس بالتعريض، وإن لم يكن شيءٌ من ذلك فهو مكروه وليس بحرام، إلا أن يُتوصَّلَ به إلى أخذ باطل أو دفع حق، فيصير حينئذٍ حرامًا، هذا ضابط الباب.
فأما الآثار الواردة فيه، فقد جاء من الآثار ما يبيحه وما لا يبيحه، وهي محمولة على هذا التفصيل الذي ذكرناه"[5].
[1] (متفق عليه): رواه البخاري (335)، ومسلم (2371) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] جاء في فتاوى الإسلام سؤال وجواب برقم (27261) ما نصه: متى تصحُّ التورية؟ وما هي الضرورة فيها؟:
متى تصح التورية؟ وإذا كانت للضرورة فقط فما المعتبر في الضرورة؟
الحمد لله، التورية لغة هي: إخفاء الشيء، قال الله عز وجل: ﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ﴾ [المائدة: 31]، وقال - عز من قائل -: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 26].
وأما معناها الاصطلاحي، فهو: أن يقول القائل كلامًا، يُظهِرُ منه معنًى يفهمه السامع، ولكن القائل يريد معنى آخر يحتمله الكلام، كأن يقول له: ليس معي درهم في جيبي، فيُفهَمُ منه أنه ليس معه أي مال أبدًا، ويكون مراده أنه لا يملك درهمًا، لكن يملك دينارًا مثلاً، ويسمى هذا الكلام تعريضًا أو توريةً.
وتُعدُّ التورية من الحلول الشرعية لتجنُّبِ حالات الحرج، التي قد يقع الإنسان فيها عندما يسأله أحد عن أمر وهو لا يريد إخباره بالواقع من جهة، ولا يريد أن يكذب عليه من جهة أخرى.
وتصح التورية من القائل إذا دعت الحاجة أو المصلحة الشرعية لها، ولا ينبغي أن يُكثِر منها بحيث تكون ديدنًا له، ولا أن يستعملها لأخذ باطل أو دفع حق.
قال النووي: قال العلماء: فإن دعت إلى ذلك مصلحة شرعية راجحة على خداع المخاطب، أو دعت إليه حاجة لا مندوحةَ عنها إلا بالكذب - فلا بأس بالتعريض، فإن لم تدعُ إليه مصلحة ولا حاجة، فهو مكروه وليس بحرام، فإنْ توصل به إلى أخذ باطل، أو دفع حق، فيصير حينئذٍ حرامًا، وهذا ضابط الباب. " الأذكار " (ص 380).
وذهب بعض العلماء إلى تحريم التعريض لغير حاجة أو مصلحة، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. انظر "الاختيارات" ص 563.
وهناك حالات أرشد النبي صلى الله عليه وسلم فيها إلى استخدام التورية، فعلى سبيل المثال: إذا أحدث الرجل في صلاة الجماعة، فماذا يفعل في هذا الموقف المحرج؟
الجواب: عليه أن يأخذ بأنفه فيضع يده عليه ثم يخرج، والدليل: عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أحدث أحدكم في صلاته، فليأخذ بأنفه ثم لينصرف))؛ سنن أبي داود (1114)، وهو في " صحيح سنن أبي داود " (985).
قال الطيبي: أمر بالأخذ ليُخيلَ أنه مرعوف (والرعاف هو النزيف من الأنف)، وليس هذا من الكذب، بل من المعاريض بالفعل، ورخص له في ذلك؛ لئلا يُسوِّلَ له الشيطان عدم الـمُضيِّ استحياءً من الناس ا.هـ "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (3 / 18 ).
وهذا من التورية الجائزة والإيهام المحمود رفعًا للحرج عنه، فيظن من يراه خارجًا بأنه أصيب برعاف في أنفه.
وكذلك إذا واجه المرء المسلم ظروفًا صعبة محرجة يحتاج فيها أن يتكلم بخلاف الحقيقة لينقذ نفسه، أو ينقذ معصومًا، أو يخرج من حرج عظيم، أو يتخلص من موقف عصيب - فهناك طريقة شرعية، ومخرج مباح يستطيع أن يستخدمه عند الحاجة، ألا وهو "التورية" أو "المعاريض "، وقد بوَّب البخاري - رحمه الله - في صحيحه "باب المعاريض مندوحة عن الكذب" - صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب (116 ).
وفيما يلي التوضيح بأمثلة من المعاريض التي استخدمها السلف والأئمة أوردها العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه "إغاثة اللهفان": ذكر عن حماد - رحمه الله - أنه إذا أتاه من لا يريد الجلوس معه، قال متوجِّعًا: ضرسي ضرسي، فيتركه الثقيل الذي ليس بصحبته خير.
وأحضر سفيان الثوري إلى مجلس الخليفة المهدي فاستحسنه، فأراد الخروج فقال الخليفة: لا بد أن تجلس، فحلف الثوري على أنه يعود، فخرج وترك نعلَه عند الباب، وبعد قليل عاد فأخذ نعله وانصرف، فسأل عنه الخليفة، فقيل له: إنه حلف أن يعود، فعاد وأخذ نعله.
وكان الإمام أحمد في داره ومعه بعض طلابه منهم المروذي، فأتى سائل من خارج الدار يسأل عن المروذي - والإمام أحمد يكره خروجه - فقال الإمام أحمد: ليس المروذي هنا، وما يصنع المروذي ها هنا - وهو يضع إصبعه في كفه ويتحدث؛ لأن السائل لا يراه.
ومن أمثلة التورية أيضًا: لو سألك شخص: هل رأيت فلانًا؟ وأنت تخشى لو أخبرتَه أن يَبطِشَ به، فتقول: ما رأيته، وأنت تقصد أنك لم تقطع رِئتَه، وهذا صحيح في اللغة العربية، أو تنفي رؤيته وتقصد بقلبك زمانًا أو مكانًا معيَّنًا لم تره فيه.
وكذلك لو استحلفك أن لا تُكلِّمَ فلانًا: فقلت: والله لن أكلمه، وأنت تعني أي لا أجرحه؛ لأن الكلم يأتي في اللغة بمعنى الجرح، وكذلك لو أُرْغِمَ شخص على الكفر وقيل: له اكفر بالله، فيجوز أن يقول: كفرت باللاهي؛ يعني اللاعب. إغاثة اللهفان: ابن القيم 1/381 وما بعدها 2/106-107، وانظر بحثًا في المعاريض في الآداب الشرعية لابن مفلح 1/14.
هذا مع التنبيه هنا ألا يستخدم المسلم التورية إلا في حالات الحرج البالغ؛ وذلك لأمور، منها:
1- أن الإكثار منها يؤدي إلى الوقوع في الكذب.
2- فقدان الإخوان الثقة بكلام بعضهم بعضًا؛ لأن الواحد منهم سيَشُكُّ في كلام أخيه هل هو على ظاهره أم لا؟
3- أن المستمع إذا اطَّلع على حقيقة الأمر المخالف لظاهر كلام الموري ولم يدرك تورية المتكلم، يكون الموري عنده كذَّابًا، وهذا مخالف لاستبراء العِرض المأمور به شرعًا.
4- أنه سبيل لدخول العُجْبِ في نفس صاحب التورية لإحساسه بقدرته على استغفال الآخرين.
انتهى من كتاب "ماذا تفعل في الحالات الآتية؟".
والله أعلم.
[3] (تأويل مختلف الحديث)؛ لأبي محمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدِّينوري (المتوفى: 276هـ) (ص: 81) (ط: المكتب الإسلامي).
[4] رواه البخاري (1301) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[5] (الأذكار) (ص: 380)؛ لأبي زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (المتوفى: 676هـ) (ط: دار الفكر - بيروت - لبنان).
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك