معالجة الفقر في الإسلام
أميرة محمود عبدالله
ظاهرة اقتصادية واجتماعية قديمة تعاني منها الدولُ برمَّتها المتقدمة منها والمتخلِّفة؛ ألا وهي الفقر؛ فالدول الغنيَّة لا تخلو من وجود طبقة من الفقراء، والدول الفقيرة على فقرها تتكدَّس فيها الثروات بِيَد فئة قليلة من الأفراد، وهم الأثرياء.
الفقر يعني: العوز ونقصان الشيء أو عدم توفره، ويعني كذلك: عدم تمكن الفرد من الحصول على حاجياته الأساسية بسبب عدم توفُّر المال لديه.
الفقر مرض فتَّاك، يلحق الضررَ بالكثيرين إن تُرك دون محاربة.
اهتمَّ الإسلام بمحاربته، ووضع وسائل عديدة للقضاء عليه ما أمكن، وقد عالج الإسلامُ هذه الظاهرة بأمرين أساسيين:
الأول: احترامه للكرامة الإنسانيَّة.
الثاني: سنُّه لمبادئ التكافل الاجتماعي.
أمَّا احترامه للكرامة الإنسانيَّة، فقد سوَّى بين جميع الأجناس والألوان والطبقات في الكرامة الإنسانيَّة، وجعل المفاضلةَ على اعتبار التقوى والإنتاج والعمل الصَّالح.
أمَّا سنُّه لمبادئ التكافل الاجتماعي، فحلولُ الإسلام كانت أرقى ممَّا وصلت إليه البشريَّة في العصر الحديث.
الحل الأول: السعي والعمل:
لا بد لكلِّ قادر أن يسعى ويعمل، فالرزق مضمون لكنَّه لن يأتي إلا بسعي، كما أنَّ خيرات الأرض كثيرة، ولا حجَّة لأحد في ترك العمل كسلاً أو إهمالاً بحجة أنَّ الله عزَّ وجل كتب عليه الفقر، وأنَّه بلا حظٍّ في الدنيا.
العمل شرف؛ فلا يعيب المرءَ نوعُ عمله ما دام مشروعًا، وقد شجَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابَته على مزاولة المهن.
عن الزبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لأن يأخذ أحدُكم حبله فيأتي بحزمة من الحطب على ظهره، فيبيعها فيكفَّ بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس أعطَوه أو منعوه))؛ أخرجه البخاري.
من المعلوم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رعى الغنمَ قبل بعثته، وزاوَل مهنة التجارة، واشتغل صحابتُه الكرام بمهن مختلفة؛ كالزراعة والتجارة، ولأهمية العمل اعتبره الإسلامُ عبادةً يُثاب عليها؛ لما يحققه من نفعٍ يعود عليه وعلى من يعول.
بل إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عدَّ الطعامَ الذي يأكله المرءُ من عمل يده هو أطيب طعام؛ عن المِقدامِ بن معدي كرب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أكل أحدٌ طعامًا قط خيرًا من أن يأكُل من عمل يده، وإن نبيَّ الله داود صلى الله عليه وسلم كان يأكل من عمل يده))؛ رواه البخاري.
الكثير من المجتمعات في زماننا الحالي تخطَّت ثقافةَ العيب، وبدأ أبناؤها العمل بشتَّى المهَن؛ فحقَّقوا كفايتهم وخفَّفوا من البطالة التي كانت تعاني منها بلادُهم.
أوجب الإسلامُ على الحاكم ومن ينوب مكانَه توفيرَ سُبُل العمل لكلِّ مَن كان قادرًا عليه ومتابعة شؤونهم بعد ذلك.
حرَّم الإسلام التسوُّل، واعتبره نكتة سوداء في وجه صاحبه يوم القيامة، وهو وصمةُ عار في الدنيا، ولم يُجِزه إلا في حالاتٍ ثلاث؛ لما ورد في الحديث الذي يرويه أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المسألة لا تحلُّ إلا لثلاثة: لذي فقر مُدقع، أو لذي غُرْم مفظِع، أو لذي دمٍ مُوجع))؛ رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة، وحسنه الترمذي.
مُدقع: شديد، مفظع: ثقيل، دم مُوجع: دية باهظة.
الحل الثاني: أوجب على أقارب الفقير الموسرين أن يتكفَّلوا بأقاربهم الذين أصابهم الفقر بسبب العجز عن العمل أو الشيخوخة، أو وفاة المعيل عن زوجة وأبناء، وربما كان له والدان وأخوات؛ لتحقيق التراحم والتكافل.
قال تعالى: ﴿ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ﴾ [الإسراء: 26] يعني: صلة الرحم، وأراد به: قرابة الإنسان، وعليه الأكثرون.
بل جعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم صلةَ الأرحام ومواساتهم سببًا في سعة الرزق؛ ففي الحديث المتَّفق عليه عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن أحبَّ أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره، فليصل رحمه))؛ رواه البخاري.
الحل الثالث: أوجب الله عزَّ وجل للفقير نصيبًا من أموال الزكاة:
قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 60].
فيُعطَى الفقير من مال الزكاة ما يؤمِّن نفقاته، وليس لأحد عليه مِنَّة ولا فضل؛ بل هو حقٌّ له، جعله الله عزَّ وجل في مال الأغنياء.
سار الخلفاءُ على نهج نبيِّهم في متابعة شؤون الرَّعية وتفقُّد أحوالهم بأنفسهم لتقديم العون لهم، فبينما كان عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه يتفقَّد رعيته ليلاً سمع بكاءَ طفل، فطلب مِن مساعده الذي كان معه أن يأمر أمَّ الطفل بإسكاته، فإذا بها تخبرهم بأنَّها تريد فطامه كي يأخذ عطاءَ فطيم - عطاء: راتب - من بيت المال، فطلب منها أن تُرضعه، وفي اليوم التالي أمر الخليفةُ أن يُفرض لكل مولود عطاء إلى عطاء أبيه بمقدار مائة درهم، وكلما نما زاد العطاء، وجرى على ذلك الخلفاءُ من بعده.
كما فرض للفقراء من أهل الذِّمة وكبار السَّن والنساء عطاءً كذلك.
الحل الرَّابع: الصدقة: وهي العطية التي يُبتغى بها الثواب عند الله تعالى.
وقد وردت أحاديث كثيرة في فضلها؛ منها ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((ما مِن يوم يصبح العبادُ فيه إلاَّ ملَكان ينزلان، فيقول أحدُهما: اللهم أعطِ منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكًا تلفًا))؛ متفق عليه.
حثَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين على الاهتمام بأقاربهم الفقراء - الذين لا تجب نفقتهم عليه ومساعدتهم - وكذلك الجيران، فبيَّن أنَّ الصَّدقة على الأقارب مضاعفة؛ من ذلك ما رواه سَلْمَان بن عَامِرٍ قال: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((الصَّدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرَّحم ثنتان: صدقة وصلة))؛ رواه أحمد والترمذي والنَّسائي.
كما حذَّر من وجود جار فقيرٍ يبيت طاويًا من الجوع، فقال صلى الله عليه وسلم: ((ما آمن بي من بات شبعانَ وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم))؛ رواه ابن أبي شيبة والبزار والطبراني، وحسنه الألباني.
تنوَّعَت في وقتنا الحالي طرقُ المساعدات للفقراء المجاورين؛ فمنها: أن بعض المخابز تقدِّم الخبز للفقراء بشكلٍ يومي، وكذلك بعضُ المطاعم تقدم وجبات، ومحلات الملابس تقدم لباس العيد، وقد جرَت العادةُ على تعاون الجيران فيما بينهم بمساعدة الفقراء ما أمكن، إمَّا بتقديم طعام أو مساعدات مالية كلٌّ حسب مقدرته.
ولأنَّ شهر رمضان شهرُ الخيرات؛ نلحَظ حرص الكثيرين على تقديم المساعدات لإدخال الفرحة على الأسر الفقيرة، وتقوم بعضُ المحطات الفضائيَّة بعرض نماذج لأُسَر تعاني من ويلات الفقر؛ فتنهال المساعدات بشتَّى أنواعها عليهم.
ربما كان من الأولى أن نبحث عن بديل غير جرح المشاعر المؤلم لنا قبلهم؛ فالفقر جرح المجتمع النازف؛ أين الجيران؟ أين الأقارب؟ لماذا الانتظار حتى تهالك البيت بما فيه من أثاث وكاد يتكلَّم ويقول: ارحموني من الوقوع على من يعيشون بين جنباتي!
إنَّ كثيرًا من الأغنياء ينفقون على أسر فقيرة أو يكفلون أيتامًا، وينفقون على طلبة علم فقراء، كل ذلك يفعلونه سرًّا لما في صدقة السِّر من أجر عظيم؛ ففي الحديث الذي يذكر السبعةَ الذين يظلُّهم الله بظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه: ((... ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شمالُه ما تنفق يمينه))؛ متفق عليه.
كانت أسر كثيرة في المدينة المنورة يأتيها رزقُها ولا تعلم من أين يأتي، فلمَّا مات من كان يُنفق عليها انقطعَت المعونات عنهم، وعندما غسَّلوه وجدوا آثارَ الحبال على أكتافه؛ إنَّه زين العابدين بن الحسين.
تنهال المساعدات على الفقراء في شهر الصيام والأعياد، وربما أنفقها كلَّها أو أغلبها، وبقي بعد ذلك في انتظار المساعدة، ممَّا يستدعي البحث عن طريقة أفضل لمساعدته طوال العام، فبالإمكان تنظيم مساعدته على طوال العام، أو جمع الصَّدقات من عِدَّة أفراد، وفتح مشروع صغير له لتحسين وضعه المادي؛ دكان - مثلاً - أو تعليمه مهنة وتوفير معداتها له، أو تأمين عمل إضافي له في مصنع أو شركة، أو ماكينة خياطة أو نسيج للسيدات - فالنساء لهنَّ دور فعَّال في تحسين أوضاع أُسرهنَّ - ومتابعته للاطمئنان عليه.
وكثير من الأسر تحسَّن حالها، وعلَّمَت أولادها من هذه الطريقة.
من أنواع الصَّدقات: الوقف الخيري، ويعني: حبس العين عن تمليكها لأحد من العِباد، والتصدُّق بالمنفعة على مصرف مباح، ويشمل الوقفُ الأصول الثابتة؛ كالعقارات والمزارع، والأصول المنقولة التي تبقى عينُها بعد الاستفادة منها؛ كالآلات الصناعية والأسلحة، أما التي تذهب عينُها بالاستفادة منها فتعتبر صدقة؛ كالنقود والطعام وغيرها.
عندما نزل قولُ الله تعالى: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92]، وسمعها أبو طلحة، بادر إلى وَقْف أحبِّ أمواله إليه؛ وهو بستان كبير كثير النخل، اسمه: "بَيْرُحاء"؛ أخرجه البخاري.
من فوائد الوقف: دوام انتفاع المسلمين به، ووصول الثواب إلى المرء بعد موته باستمرار وجود الوقف، وذلك حسب الجهة الموقوف عليها؛ فقد يكون وقفًا للمجاهدين، وقد يكون وَقفًا للعلماء وطلبة العلم، وقد يكون وقفًا على الفقراء والمساكين، وقد يكون وقفًا على المساجد، وغير ذلك...، والحاجة إليه ماسَّة في الوقت الحالي.
أحسن المسلمون استثمار الوقف؛ فكان له دورٌ كبير في إعالة الأُسَر الفقيرة واستقرارها بجوار مشاريع الوقف، وساهم في تحسين الظروف الصِّحية، وكان له أثر كبير في استمرار كثيرٍ من المدارس والمعاهد والمستشفيات التعليمية، فتمَّ بذلك القضاء على الجهل؛ بل أسهم في تقدُّم العلم في كافَّة المجالات.
عندما تتكاتف الجهود من أجل القضاء على هذا المرض الذي إن لم يقتل صاحبَه شلَّ حركتَه، سيتحقق الأمنُ، ولن يكون هناك سرقات وجرائم بسببه.
عندها ستقوى الأجسادُ الضعيفة التي نخر الفقرُ فيها فأكل منها اللحمَ، وأذاب الشَّحم، وأنهك العظمَ، وستقف بإذن الله عزَّ وجل في مواجهة المتربصين.
عندها سينتشر التعليمُ الذي كان يصبو إليه الأطفالُ والشباب، ومنعهم من ذلك سعيهم على لقمة عيشهم مع ذويهم.
عندها لن يتمكَّن أحدٌ بإذن الله عزَّ وجل من التلاعُب بعقول الشباب لاجتثاثهم من دين التوحيد إلى الكُفر والعياذ بالله.
فليس غريبًا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوَّذ من الكُفر والفقر دُبر كل صلاة؛ لشدَّة خطورة الفقر: ((اللهُمَّ إنَّي أَعُوذُ بكَ من الكُفرِ وَالفَقرِ)).
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك