من وحي القلم في معجزة التشريع الإسلامي
أمين حجي الدوسكي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن وآلاه، وبعد.
من أعظم نعم الله على عباده إرسال رسله وأنبيائه إليهم؛ فبهم يعرف الإنسان حقيقة نفسه وكنهها وما يعتريها من ضعف وقوة؛ وذلك بإدلاله على خالقه ومدبره؛ قيوم السماوات والأرض ذو الأسماء الحسنى والصفات العلى؛ فلولا الرسل؛ لاستقل الإنسان بعقله في معرفة عالم الغيب - بالإيمان أو الجحود - وعالم الشهادة في تدبير أمور حياته سواء تعلق بالدين أو الدنيا أو بالروح أو البدن؛ ولكان شأن العقل معها شأن من يدُلَّ الأعمى الطريق إلى الطبيب معالج الأسقام والعاهات؛ ثم يطلب الدال الأعمى بوجوب أخذ إرشاداته ونصائحه في الطب والعلاج؛ بدلًا من إرشادات الطبيب؛ بحجة أنه دله عليه؛ مع أن كليهما غير مستغنيان عن الطبيب في معالجة عللهما؛ فتبين أن إرسال الرسل من الضروريات التي يكمن عليها إقامة الحياة؛ ولكن لا بد لكل دعوى من حجة وبرهان؛ فكان من البراهين القاطعة على صدق دعوى الرسل بأنهم مصطفون من عند الله؛ المعجزات الإلهية التي منحها الله لرسله تصديقًا لهم؛ وإلزاما العباد بإقامة الحجة عليهم، ﴿ رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾، [النساء: 165].
والمعجزة في اللغة: من العجز والضعف؛ ومعروف أن لغْيَ اللسان هي تعبير لما يكِنُّ في الإنسان من العوامل النفسية البشرية والطبيعة الخَلقية والخُلقية التي تنطق حاله بها؛ ومن جملة الحالات النفسية والطبيعية التي في الإنسان الضعف والعجز؛ فعبرت في اللغة العربية بهذه الحروف ع ج ز لما مسه في طياته من فقر ودقِعٍ نفسي وخلقي تجاه ما يضاده.
والتعريف الاصلاحي في تجمع معناه؛ مأتيٌ من المعنى اللغوي للكلمة الأصلية له؛ فالمعجزة النبوية هي ما يعجز الإنسان عن الإتيان بها حال حياته؛ فهي الأمر الخارق للعادة البشرية وحتى الجنية الاستطاعة عن الإتيان بها.
والغرض من المعجزة؛ تحدي الثقلين عن الإتيان بمثلها؛ مع إصدارها على أيدي الأنبياء والمرسلين؛ تصديقًا للدعوة النبوية في أنها رسالة ربانية أنزلت لأجل خلاصهم من الهلاك والضيق والفساد وإخراجهم من ظلمات الكفر والإلحاد إلى نور الإيمان واليقين برب العاملين ورسله المصطفين.
فالمعجزة تصديق للنبوة؛ وتحدي للبشرية الإتيان بمثلها؛ والتي تسلم لها المعارضة؟
والمعجزات تختلف باختلاف العوائد والأعراف البشرية؛ ولذلك فلكل نبي معجزته التي خرقت عادة البشرية والجنية في وقته وحسب طبيعة وعادة زمانه؛ فمعجزة هود هي عدم استطاعة أحد مسه بسوء؛ قال له قومه: ﴿ إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ ﴾، [هود: 54-55]، وذلك فقًا لما كان عليه قومه من القوة والبأس والبطش، قال لهم هود: ﴿ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ﴾، [هود: 52]، وقال: ﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ﴾، [الشعراء: 128-130].
ومعجزة صالح ناقته التي خرجت من الصخر تحلب لهم كل يوم؛ قال لهم نبيهم: ﴿ وَيَا قَوْمِ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ﴾، [هود: 64]، وكانوا متعايشين مع الجبال والصخور؛ عارفين قوتها وصلابتها ومناعتها؛ قال: ﴿ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا * فَرِهِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾، [الشعراء: 146-150]؛ فأخرج الله لهم من صخوره معجزة من جنس آخر وهي الناقة؛ لعلهم يعتبرون ويعقلون ويعرفون قدرة الله في خلقه.
ومعجزة يوسف تأويل الرؤيا؛ لكي يخلص الناس من الهلاك في رؤيا ملك مصر، ويخلص الفتيين الذين دخلا معه السجن؛ من الكفر للذي صلب؛ ومن المعصية والجور للذي ظن أنه ناج منهما، قال تعالى: ﴿ وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ... ﴾.
ومعجزة موسى آياته التسع، قال تعالى: ﴿ وَلَقَد آتَينَا مُوسَى تِسعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسأَل بَنِي إِسرَائِيلَ إِذ جَاءهُم فَقَالَ لَهُ فِرعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسحُوراً ﴾، [الإسراء: 101]، ﴿ فَأَلقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعبَانٌ مُّبِينٌ ﴾، [الأعراف: 107]، ﴿وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيضَاء لِلنَّاظِرِينَ﴾ [الأعراف: 108]، ﴿ فَأَرسَلنَا عَلَيهِمُ الطُّوفَانَ وَالجَرَادَ وَالقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاستَكبَرُوا وَكَانُوا قَوماً مُّجرِمِينَ ﴾، [الأعراف: 133]، ﴿ وَلَقَد أَخَذنَا آلَ فِرعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُم يَذَّكَّرُونَ ﴾، [الأعراف:130]، ﴿ فَأَوحَينَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضرِب بِّعَصَاكَ البَحرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرقٍ كَالطَّودِ العَظِيمِ ﴾، [الشعراء: 63]، ﴿ وَاحلُل عُقدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفقَهُوا قَولِي ﴾، [طه:27-28]، فمعجزاته التسع هي: جعل العصا ثعبانًا واليد أبيضًا يشع منه نور، وانفلاق البحر، وانبجاس الماء من الحجر، وإرسال الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم على فرعون وملأه بطغيانهم؟
وهذه المعجزات تحدى بها موسى فرعون وسحرته وقومه؛ خاصة بعصاه التي كان يلقيها فتصير ثعبانًا بحجمها وضخامتها؛ ومثل الجانّْ - وهي الحية الصغيرة - باهتزازها وسرعت حركتها؛ فكانت هذه المعجزة تلائم ما كانت عليه مصر من السحر حينها؛ فأتت لهم بها تشبه ما يقومون به من تقليب الحبال والعصي ثعابين، وهذا في الظاهر، فلما تجلى الحقيقة الباطنة لسحرة فرعون في عصاه؛ آمنوا به وخروا لربه سجدًا.
ومعجزة المسيح هي إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله، وإخبارهم عما يدخرون ويأكلون في بيوتهم، وذلك لأنهم كانوا قد ضعف إيمانهم بالغيبيات؛ فكان يقينهم لا يتجاوز ما يحسونه من الأمور الظاهرة المادية؛ فأرسل الله رسوله المسيح وبمعجزات غيبية روحية كي يؤمنوا بالله وقدرته واليوم الآخر؛ كما أخبر تعالى عنه: ﴿ وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾، [آل عمران: 49].
وعلى إثرها أظهر الله آية أخرى في قصة أصحاب الكهف، وكيف أن الله أنامهم في الكهف 309 سنين قمرية؛ ثم بعثهم مرة أخرى، وأرسلهم إلى المدينة؛ لكي يجدد في القوم إيمانهم بعالم الغيب؟! وكان هذا بعد بعثة المسيح عليه السلام.
ومعجزات محمد عليه وعلى الأنبياء الصلاة والسلام؛ كثيرة وأعظمها؛ القرآن الكريم؛ المعجزة الخالدة بخلود العقل ووجوده؛ فهي تخاطب العقل واللب قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾، [يوسف: 3]، ﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾، [الملك: 10]، وما الإنسان إلا العقل واللسان.
والقرآن الكريم يحوي على معجزات كثيرة منها:
1- الإعجاز البياني اللغوي الذي أعجز قريش - وهم أساطين اللسان وصناديد البيان بين العرب - من الإتيان بمثله قال تعالى: ﴿ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ﴾ [الإسراء: 88]، وقال: ﴿ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ﴾، [الطور: 34]، فلما صرخ عجزهم عن ذلك؛ قال تعالى: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [هود: 13-14]، فلما على ضعفهم قال تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [ البقرة: 23-24]. فقطع دابرهم ونكس وجوههم وبهت ﴿ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258].
ومع ما يتضمن القرآن الكريم من الإعجاز البياني لقريش والعرب عن الإتيان بمثله؛ فإنه يشمل المعجزات الأخرى أيضًا؛ لأن تحدي القرآن للعرب عن الإتيان بسورة من مثله؛ وذلك فيما ينضوي وينطوي من معجزات؛ سواء كانت بيانية أو غيبية أو علمية أو تاريخية أو تشريعية أو غيرها؟
ومن أمثلة الإعجاز البياني في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿ وَلَكُم في القِصَاصِ حياةٌ يا أُولِى الأَلْبَابِ لَعلَّكُم تَتَّقُون ﴾، ولما نزلت هذه الآية المبينة أن الحياة مكمن في القصاص؛ لأن به يردع المقدم لخرم مهج غيره بالفتك؛ فيحفظ نفسه ونفس الآخر بذلك؛ ومع أن هناك إهدار لبعض النفوس، ولكنها توفر للنفوس أجمع الحياة؛ وكذلك القصاص لا يخص القتل فقط؛ بل يشمل الدية والعفو بعد المقدرة أيضًا؛ فالحكم في الآية هو القصاص، والحكمة منه حفظ الحياة؛ وعلته القتل العمد العدوان بآلة يقتل منه عادة؛ وبتجلي المعجزة البيانية هذه؛ هجرت قريش كلمة كانت تفتخر بها، وتنقل على الألسن وتكتب بالطروس في القراطيس، وهي كلمة (القتل أنفى للقتل) - أي بقتل القاتل ينفى القتل ويعدم، أو بالقتل يأنف ويتبع الإنسان على نفسه القتل -؛ لما رأو من سلاسة معنى الآية وهي أن بالقصاص يتحقق الحياة؛ وجمال مبناها ولطافة لفظها، فـ (القصاص) رمز العدل والوفاء للمجنى عليه، (والحياة) هي التي بها ومن أجلها يحيى الإنسان حياة مادية ومعنوية روحية ونفسية؛ وهذه الكلمة تأخذ بكل شغاف القلب؛ لأنها تمد الإنسان الحياة نفسيًا ومعنويًا، فتتجلى الحياة المادية بها؛ وهذا في مقابل معنى كلمة، القتل أنفى للقتل؛ التي تشمئز منها النفوس وتفوح منها رائحة الهلاك والهدر والموت والفناء، وتظهر في طياتها تصور المنية وهي تنشب مخالبها في وجه الحياة فتلويها بعد أن لفظت أنفاسها الأخيرة؟
2. الإعجاز العددي؛ الذي يبين أعداد الآيات والسور والأرقام لإظهار تناسق الروابط المعنوية المعجزة في القرآن والدالة عليها الأعداد العددي.
3. الإعجاز العلمي؛ من ذكر شداد السماوات وما فيها من أنوار وضياء، ﴿ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ﴾، [النبأ: 8-9]، والأرض وما فيها من طبقات، ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾، [الطلاق: 12]، وأسرار البحار وأمواجها وظلمات بواطنها، ﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾، [النور: 40]، وظواهر ما في الجبال، ﴿ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ ﴾، [فاطر: 27]، وقد جعلها للجبوب أوتادًا، ﴿ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴾ [النبأ: 6]، والليل للإنسان بمثابة السكن والنهار للمعاش، ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا... ﴾ [النبأ: 7]، وحقائق الكون والإنسان والحشرات والجماد والحيوان، وغيرها من الآيات الدامغة التي تبرهن صدق القرآن ورسالة رسول الرحمن؟.
4. الإعجاز التاريخي والغيبي؛ من ذكر تاريخ الأمم الغابرة وما اعترتها من أمور غيبية بينتها القرآن الكريم في قصص الأنبياء كنوح وهود وصالح وإبراهيم ويوسف وموسى وزكريا وعيسى، وفي سور عدة، وقصة يوسف خير دليل على الإعجاز الغيبي والتاريخي، وذلك فيما حدث له مع إخوته؛ إلى أن حل به إلى مصر؛ ثم بيان حقيقة المُلك في مصر، وأن حكامها كانوا ملوكًا وليسوا فراعنة، كما في عصر موسى عليهما السلام؛ بما يبين الفرق بين الحالتين الحالة الملوكية والحالة الفرعونية؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي... ﴾ [يوسف: 54]، وقال: ﴿ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ﴾، [الإسراء: 102]، وكأن انقلابًا حصل على الفراعنة قبل يوسف عليه السلام؛ من قبل مماليك غير أصليين من مصر ثم استرجع فراعنة مصر ملكهم بعد يوسف وقبل موسى، فهذا كله إعجاز قرآني تاريخي وغيبي؛ خرق العادة أن تأت بمثله من الدقة والتفصيل والإحاطة والبيان، ومنها الأمور الغيبية المستقبلية كفتح مكة؛ وانتصار الروم على الفرس بعد غلبة الفرس عليهم قبل الهجرة النبوية؛ والإخبار عن مصير أبو لهب بعدم دخوله الإسلام وبقائه على الكفر؛ وصدق القول الحق بدخوله نارًا ذات لهب.
5. الإعجاز التشريعي، والمقصود من المقال هذا بيان الإعجاز التشريعي الذي أتى به القران الحكيم، والإعجاز التشريعي الذي شمل جميع جوانب الحياة البشرية ككل؛ هو المقصود من إنزال القرآن؛ قال تعالى: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ... ﴾، ومن هنا للجنس وليس للتبعيض؛ أي من جنس القرآن، وقال: ﴿ أَلِم * ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ... ﴾، البقرة:1-2، ﴿ فِيْهِ هُدَىً ﴾، فما في القرآن كله شفاء ورحمة وهدى للناس إن طبقوها وعملوا بها، ولذلك ختم آية سورة الإسراء بـ ﴿ ... شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنين ﴾، وآية البقرة بـ ﴿ هُدَىً لِلْمُتَّقِين ﴾؛ فأول الشفاء من الأمراض والذي يتبعها الرحمة؛ الإيمان والتصديق بالعلاج؛ ومن ثم الالتزام بتشخيص الطبيب له، والإتقان في استعماله وفي أوقاته المحددة بدقة من غير زيادة ونقصان؛ كي يرجى البرء من الأمراض؛ وإلا فما ﴿ يَزِيدُ الظَّالِمِيْنَ إلاَّ خَسَارًا ﴾، [الإسراء: 82].
والإعجاز التشريعي يشمل عالم الغيب والشهادة؛ فعالم الغيب؛ هو ما شرعه الله من العقيدة على الإيمان بأمور البرزخ والآخرة والروح، وكل ما غاب وخفي عن الحس والعقل، وعالم الشهادة؛ هو ما شرعه الله قواعد وأصول مهيمنة على جميع ما في عالم الشهود من جزئيات سواء دخلت في العبادات أو المعاملات، وسواء تعلقت بالفرد أو الأسرة أو المجتمع أو الدولة أو الأمة الإسلامية أمة التوحيد أو الأمة المحمدية أمة الدعوة.
والإعجاز التشريعي معجز من حيث إحاطته بجميع جوانب الحياة البشرية؛ والذي خرق العادة في الأيدولوجيات والأفكار والدساتير والأديان البشرية جميعًا قديمًا وحديثًا أن تأتي بمثله؛ وحتى الأديان غير المحرفة قبل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لم تكن شرائعها كاملة كمال شريعة محمد الخاتمة بختم النبوة؛ وذلك من حيث علاقتها بالمعاملات والعبادات.
أما العقيدة من توحيد الله في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره؛ فتدين بها الأديان الحقة جمعًا؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25]، وقال: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ﴾ [الشورى: 13].
فإقامة الدين هنا يقصد بها التوحيد وإخلاص العمل لله ونبذ الشرك والكفر، قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ﴾ [الزمر:2-3].
يتبع
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك