شبكة ربيع الفردوس الاعلى

شبكة ربيع الفردوس الاعلى (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/index.php)
-   تفريغ المحاضرات و الدروس و الخطب ---------- مكتوبة (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/forumdisplay.php?f=350)
-   -   حول التقوى (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/showthread.php?t=270766)

ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران 06-06-2016 06:26 PM

حول التقوى
 
حول التقوى


الشيخ عبدالله باه






أعدها للنشر: عبدالإله جاورا.

الخطبة الأولى
إنَّ الحمد لله، نستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلِل فلا هادِي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أنَّ محمَّدًا عبده رسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18].

عبادَ الله، أُوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فإن التَّقوى هي سفينةُ النَّجاة، وأساسُ هذا الدين، فلا تنفع عبادةٌ بدون تقوى الله، ولا تُكفل حقوقُ العباد في معاملاتهم إلاَّ بها.

لقد عرَّفها علي بن أبي طالب رضي الله عنه عندما سُئل عنها بقوله: "هي الخوفُ من الجليل، والعملُ بالتنزيل، والرِّضا بالقليل، والاستعدادُ ليوم الرَّحيل"، ولأهميَّتها وردَت في 257 آية من القرآن، وجعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم من هذه الآيات ديباجةَ خطَبِه المنبريَّة، بعد أن يحمد اللهَ ويثني عليه بما هو أهلٌ له.

عبادَ الله، اعلموا أنَّ الهدف الأساسيَّ من تشريع العِبادات من صلاةٍ وصوم وزكاةٍ وحجٍّ، هو تطهيرُ القلب وإيجادُ التَّقوى فيه، فعن الصوم يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، وعن الصلاة يقول: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [العنكبوت: 45]، فالصلاة تُورِث في قلب المصلِّي التقوى، التي تمنعه من الفحشاءِ، وتَحول بينه وبين والمنكَر، فأسند الفعل إلى الصلاة إسنادًا مجازيًّا لعلاقة السببيَّة؛ فالذي يصلِّي ليلَ نهارَ ولكن صلاته لا تؤثِّر بإيجاد تقوى الله في قلبِه، يجب أن يعلَم أنَّ صلاته هذه لم تَرْق إلى مستوى الصلاة الشرعيَّة المطلوبة منَّا، وبالتالي لا يكون لها تأثيرٌ في إِيجاد التَّقوى أو دخولِ الجنَّة مهما كثرَت، يقول الله تعالى: ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ﴾ [الحج: 37]، وكذلك كلُّ العبادات؛ فإنَّ التَّقوى التي تحمل العبدَ على فِعل العبادةِ مهما تكن صعبةً، هي روحُها، ومدار ثوابِها وجزائها، فالنَّجاة من النَّار ليست مشروطةً بكثرةِ الأعمال الصالحة وحدَها؛ بل بدرجة التَّقوى المترتِّبة عليها، ولا هي مشروطة بالإيمانِ وحده بدون التَّقوى؛ فإنَّ الإيمان قَد لا يمنع دخولَ المؤمن النَّار، إنَّما يمنع خلودَه فيها مَهما يكن ضعيفًا كما ورَد في الحديثِ الصحيح، فالذي يمنع دخولَها هو التَّقوى، فالإيمانُ والتَّقوى ليس بينهما تلازم؛ بل بينهما العمومُ والخصوص المطلَق؛ فالإيمان أعمُّ من التَّقوى، والتَّقوى أخصُّ منه، قد يكون العبدُ مؤمنًا بالله، ومع ذلك لا يتَّقي اللهَ فيرتكب كثيرًا من المعاصي والذنوب تَحُول بينه وبين دخولِ الجنَّة ولو مؤقتًا، أمَّا التَّقِي فلا يكون إلاَّ مؤمنًا بالله، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾ [فاطر: 32]، الظَّالم لنفسه هو"المُفرِّطُ في فعل بعض الواجبات، المُرتكبُ لبعض المُحرَّمات"؛ كما قال ابن كثير، والمقتصدُ هو "المؤمن المُؤدِّي للواجبات، التَّاركُ للمُحرَّمات، وقد يترُكُ بعض المُستحبَّات، ويفعلُ بعض المكرُوهات"، والسابق بالخيرات هو "التَّقي الذي حالت تقواه بينه وبين المعاصي فلم يعص اللهَ، أو على الأقل لا يُصِرُّ على الذنوب، فيدخل الجنَّةَ دون سبق عذابٍ"، ولا غرابة في ذلك؛ فإنَّ التقوى هي أساس الدِّين كله وعماده.

نفعني الله وإيَّاكم بالقرآن العَظيم، وبما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، سمعتُم ما قلتُ، إن كان صوابًا فمِن الله، وإن كان خطأ فمِن نفسي ومِن الشيطان، أستغفر اللهَ لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرَّحيم.

الخطبة الثانية
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمَّدًا عبده ورسوله، أرسله اللهُ بالمحجَّة البيضاء، ليلها كنهارِها، لا يزيغ عنها إلاَّ هالك، فبلَّغ الرسالةَ، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمَّة، وجاهد في الله حقَّ جهاده، حتى أتاه اليقين.

عبادَ الله، إن للتقوىمزايا كثيرة، منها:
1- أنَّها تجعل المتَّقي يعيش في معيَّة الله سبحانه وتعالى، يقول تعالى في محكم تنزيله: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 194]؛ يوفِّقه إلى فعل ما يحبُّه ويرضاه، ويحفظه ويرعاه؛ حتى لا يقع فيما يسخطه ويغضبه.

2- الأتقياء هم أكرمُ الناس وأفضلهم عند الله؛ قال تعالى:﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]، فالذي هو أكثر منك تقوى فهو أفضل مِنك عند الله سبحانه وتعالى، فمقاييسُ التفاضل بين النَّاس عند الله، تختلف عنها عند الناس.

3- التقوى هي أفضلُ لباسٍ للعبد، يستر عورته عند الله وعند النَّاس، يقول الله تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾ [الأعراف: 26]، فالفاجر الجرِيء على الله يمشي بين النَّاس كاسيًا وهو عارٍ عند الله، ولو ارتدى الحرير والخز، أو أي نوعٍ آخر مِن أفخر الملابس وأجملها، والتقيُّ يمشي بين النَّاس بملابس رثَّة بالِية خَلِقة، وهو المستورُ عند الله، وإذا رَفع يديه إلى الله يستحي أن يردَّهما فارِغتين وهو القائل: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27].

4- التقوى هي خير الزَّاد للعبد في رحلته الطويلة إلى لقاء الله يومَ البعثِ والحساب، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197]، ولقد كان عليُّ بن أبي طالب يشتكي مِن طول الطريق إلى الحسابِ والجزاء، ومِن قلَّة زادِه- أي: التقوى- وهو أول صبيٍّ اعتنق الإسلامَ ولم يسجد لصنمٍ أبدًا، وتربَّى في أحضان النَّبي صلى الله عليه وسلم، وهو زوجُ فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، وأبُ الحسنِ والحسين سيدَي شباب أهل الجنة، ولم يَغْز النَّبي صلى الله عليه وسلم غزوةً إلا وهو معه، وهو الخليفةُ الرابع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد رُوي عن ضرار بن ضمرة الضبابي أنَّه دخل على معاوية بن أبي سفيان، فسأله عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، قال ضرار: "لقد رأيتُه في بعض مواقفه، وقد أرخى الليلُ سدولَه، وهو قائمٌ في محرابه، قابضٌ على لحيته، يتمَلْمل تملمُلَ السَّليم، ويبكي بكاءَ الحزين، وهو يقول: يا دنيا، يا دنيا، إليكِ عني، أبي تعرضتِ، أم إليَّ تشوقتِ، لا حان حينُك، هيهات، غُرِّي غيري، لا حاجةَ لي فيكِ، قد طلَّقتُك ثلاثًا لا رجعة فيها؛ فعيشُك قصير، وخطرُك يسير، وأَمَلُك حقير، آهٍ من قِلَّة الزاد، وطولِ الطريق، وبُعد السفر، وعظيم المورد، وخشونة المضجع!".

عبادَ الله، إذا كان علي بن أبي طالب في هذه الدَّرجةِ العالية في الإسلام وهو يشتكي مِن قِلَّة تقواه وقلَّة عبادته، فما بالنا نحن لا نشتَكِي، ونحن أَجْرأ النَّاس على الله، وأقلُّهم عبادةً، وأعتاهم على حقوق النَّاس، وقد انتشر التحاسدُ والتباغض في مجتمعاتنا، حتى بين العلماء والدُّعاة إلاَّ مَن رحم الله؟

أقول قولي هذا، وأستغفر اللهَ لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم، اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطلَ باطلاً وارزقنا اجتنابَه، وصلى الله على نبيه محمد وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا، سبحان ربِّك ربِّ العزَّة عمَّا يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله ربِّ العالمين.


[1] ألقيت هذه الخطبة في مسجد المركز الإسلامي للدعوة إلى الكتاب والسنة، دكار- السنغال.









المصدر...


الساعة الآن 07:12 AM

Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved. منتديات

mamnoa 2.0 By DAHOM