شبكة ربيع الفردوس الاعلى

شبكة ربيع الفردوس الاعلى (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/index.php)
-   تفريغ المحاضرات و الدروس و الخطب ---------- مكتوبة (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/forumdisplay.php?f=350)
-   -   محاسبة النفس (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/showthread.php?t=270748)

ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران 06-06-2016 06:26 PM

محاسبة النفس
 
محاسبة النفس


مرشد الحيالي














أيها المسلمون، إن محاسبة المسلم لنفسه على ما فرَّطت في جنب الله، وتقصيرها في طاعة الله - هو طريق نجاتها وفلاحها، قال سبحانه في محكم التنزيل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18].



وقال سبحانه في بيان أن الفلاح في محاسبة النفس: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴾ [الشمس: 9]؛ أي: من زكَّى نفسه وألزمها الطاعة والقناعة، وحملها على الانقياد لأوامر الله ومخالفة الهوى والشيطان، ﴿ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 10]؛ أي: دنَّس نفسه في الآثام والمعاصي، ولم يحاسبها ويأخذ بخطامها، بل أهملها ترعى في مستنقع الرذائل.



وقد بيَّن الله أن الجزاء الحسن والمثوبة في العاجل والآجل في محاسبة النفس، فقال: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 40، 41].



وفي الحديث عن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الكَيِّسُ - أي: العاقل - مَن دان نفسَه - أي: حاسبها - وعمل لما بعد الموت، والعاجز مَن أتْبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأمانِيَّ))؛ رواه الترمذي.



وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوها قبلَ أن توزَنوا؛ فإن أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسِبوا أنفسكم اليوم، وتزيَّنوا للعرض الأكبر ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ [الحاقة: 18].



وقال الحسن: لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه: ماذا أردت تعملين؟ وماذا أردت تأكلين؟ وماذا أردت تشربين؟ والفاجر يمضي قُدُمًا لا يحاسب نفسه!



أيها المؤمنون، إن النفس الإنسانية مجبولةٌ على حبِّ العاجل، وإيثاره على الآجل، ومطبوعة على إيثار ملذَّات الدنيا وزُخرفِها، على نعيم الآخرة وسرمدها؛ ولذا قال الله تعالى على لسان امرأة العزيز: ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [يوسف: 53]، وقد كان نبينا الكريم ورسولنا الأمين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم يَستعيذُ بالله من شرِّ النفس في خطبة الحاجة فيقول: ((ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا...))، وقد قسَّم علماؤنا في كتب الزهد والتفسير والرقائق النفوسَ إلى نفس لوَّامة، وهي: نفس المؤمن التي تلوم صاحبها على ترك الخير وفعل الشر؛ إن قصَّر في الطاعة والخير لامته أنه لم يزدد منه، ولامته في الشر أنه وقع فيه وارتكبه، ثم النفس الأمارة بالسوء، والنفس المطمئنة، وهي التي اطمأنَّتْ إلى ذكر الله، وأنست بطاعته، وسعدت بمحبته، وأبغضت معاصيه ومخالفته، واتخذتْ من اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلكًا ومنهاجًا وقدوة ومثالاً.



إن حال النفس الإنسانية كحال التاجر مع شريكه، فإن حاسب التاجر شريكه وراقبه على الصادر والوارد، والناتج والعائد، والربح والخسارة، وتعاون الشريك والتاجر، يوشك أن يربح في كسبه وينتج من تجارته، وإن أهمل التاجر شريكه ومَن يعمل عنده، وأهمل مراقبته، ولم يطلع على الصادرات والواردات، يوشك التاجر أن يُفلِسَ ويخسَرَ، وكذلك حال الإنسان مع نفسه؛ إنْ حاسبها وأوقفها عند حدودها، وأمسك بخطامها وأوردها المرتع الطيب، أفلح وفاز وخفَّ عليه الحساب.



أيها الناس، إن محاسبة الإنسان لنفسه يجني منها الربح والاستقامة، والوقوف على رصيد الأعمال، ومن فوائد المحاسبة وثمارها التي ذكرها العلماء في كتب الزهد والرقائق:

أن المحاسبة تكشف للمسلم عيوبَه ومساوئه، وما جنتْه يداه، وربما كشفت له أن ما كان يظنه عملاً مبرورًا هو عمل مردود؛ مما يدعوه إلى تصحيح العمل، وإخلاص الدين لله، والتوبة والاستغفار من السيئات، ومن أجل ذلك وصَّى أهلُ العلم والصلاح والتقوى بأن تكون للمسلم ساعة يحاسب بها نفسه على مرِّ الدهر، وذكر الإمام أحمد عن وهب قال: مكتوب في حكمة آل داود: حقٌّ على العاقل ألا يَغفُلَ عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه، ويَصدُقونه عن نفسه، وساعة يُخَلِّي فيها بين نفسه وبين لذَّاتها فيما يحل ويَجمُل؛ فإن في هذه الساعة عونًا على تلك الساعات وإجمامًا للقلوب.



ومن فوائد المحاسبة أنها تُعرِّفُ العبدَ المسلم رحمةَ الله به ولطفَه به، وأنه لو شاء لعجَّل له العقوبة، وأخذه بالذنب، ولكنه أمهله حتى يتوب مما يورثه محبة وإجلالاً لخالقه.



لقد كان أصحاب رسول الله والتابعون من هذه الأمة، والصالحون من عباد الله - يتَّخذون محاسبة النفس ولومَها طريقة ومنهاجًا، بالرغم من إتقانهم العمل، وعدم تقصيرهم؛ بل مع شدة خوفهم ووَجَلِهم كانوا يحاسبون أنفسهم على الدقيق من الأعمال، والقليل من الأقوال، واليسير من الأحوال؛ مما يدلُّ على كمال الإيمان، وزيادة الوَجَل والإحسان، وقوة المحبة في النفس والوجدان، يقول أنس مخاطبًا مَن كان في عهده، وموجودًا في زمنه: "إنكم لتعملون أعمالاً هي أدقُّ في أعينكم من الشَّعَرِ، إن كنا لَنعدُّها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من المُوبقات"، ونحن جمعنا بين التقصير والعصيان، والأمن من دخول النيران، بل ضمان التنعُّم في الجنان مع الحور الحسان، نعوذ بالله من خاتمة السوء والخذلان.



تأملوا معي أيها المسلمون ما رواه مسلم في صحيحه؛ مما يدل على وجل الصحابة رضوان الله عليهم وخوفهم من عقوبات الذنوب؛ فعن حنظلةَ الأُسَيِّديِّ قال - وكان من كُتَّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -: "لَقِيني أبو بكرٍ، فقال: كيف أنت يا حنظلةُ؟ قال: قلتُ: نافَقَ حنظلة! قال: سبحان الله ما تقول؟! قال: قلت: نكونُ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُذكِّرُنا بالنار والجنة، حتى كأنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، عافسنا الأزواج والأولاد والضَّيْعات، فنَسينا كثيرًا، قال أبو بكر: فوالله إنا لَنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر، حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نافق حنظلة، يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وما ذاك؟))، قلت: يا رسول الله، نكون عندك تُذكِّرُنا بالنار والجنة حتى كأنا رَأْيُ عينٍ، فإذا خرجنا من عندك، عافسنا الأزواج والأولاد والضَّيْعات، نسينا كثيرًا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، إنْ لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فُرُشِكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة، ساعة وساعة)) ثلاث مرات.



فلا تغفلوا رحمكم الله عن محاسبة أنفسكم قبل يوم الحساب والنقاش ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 30]، يوم ﴿ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ﴾ [الفجر: 23 - 26].



أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، وطوبى لمَن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرًا، وصلاة على الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.



الخطبة الثانية

أيها المؤمنون، قال تعالى في محكم التنزيل: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47].



إن محاسبة المسلم لنفسه وعلى ما جَنتْه يداه، ودعتْه إليه نفسه - مما يعينه على الاستقامة والثبات، ويدعوه إلى الاستزادة من عمل الحسنات، ويحثه على التوبة قبل الممات.



وقد مدحَ الله تعالى أهل طاعته بقوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [المؤمنون: 57، 61]. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، فقلت: أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرقون؟ فقال: ((لا يا ابنة الصدِّيق! ولكنهم الذين يصومون ويصلُّون ويتصدَّقون، ويخافون ألا يتقبل منهم، أولئك يسارعون في الخيرات))؛ الترمذي، وابن ماجه، وأحمد.



واعلموا أيها الناس أن المحاسبة تكون على الفرائض والمحرَّمات قبل النوافل والمكروهات، فينظر المسلم في الفرائض والأوامر الشرعية، فإن وجد أنه قائم بها على أكمل وجه، وأنه مُطبِّق لما أمره الله، ممتثل لمَا جاء به رسول الله، فليحمد الله، وليشكره على نعمه، وأنه ممن فضَّله الله على كثير من عباده المسلمين، وإن كان هناك تقصير في الصلاة أو الزكاة أو الحج، فليبادر إلى تدارك ما قصَّر فيه، وليَتُبْ مما أخلَّ فيه، وفي باب النواهي الشرعية إن كان قد دنَّس نفسه في المحظورات، وارتكب شيئًا من المنكرات، ودَعَتْه نفسه الأمارة إلى الوقوع في المنهيَّات، فليسارع إلى التوبة والندم والإقلاع عنها قبل أن يُحالَ بينه وبين التوبة، وهكذا ينتقل بعدها إلى النوافل والمستحبَّات كنوافل الصلاة القبلية والبعدية، وصلاة الوتر والضحى ونحوها إن كان ممن تركها وأهملها، فيبادر إلى العمل وإن كان يسيرًا قليلاً، وليُمرِّنْ نفسه على محبة الطاعات، والرغبة في الخيرات؛ حتى يألفَها، ويحبَّها، وينشرح صدره لها.



هذه صور مشرقة أيها المسلمون ولمحات مضيئة، ونفحات إيمانية، تدلُّ على اهتمام سلفنا الصالح وعلمائنا الأخيار وفقهائنا الأبرار بمحاسبة أنفسهم، ومعاقبتها حين تقصِّرُ في المعروف، وتتكاسلُ في بعض الظروف، ونجد بعضَهم يتَّخذ أساليب معيَّنة، وتدابير معروفة، والغرض هو حملُ النفس على الاستقامة وسلوك الجادَّة، ومنعها من سلوك طريق الغَواية وسبيل الندامة، كان بعضُهم قد حفر لنفسه في البيت مثل القبر ينزل فيه إذا جنَّ عليه الليل، ويتلو قول الله: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ﴾ [المؤمنون: 99]، حتى يبعث في نفسه اليقظة الدائمة، والعبرة النافعة، والإحساس بالندم على ما أخَّر وقدَّم، وكان الأحنف بن قيس يجيء إلى المصباح، فيضع إصبعه فيه، ثم يقول: حس يا حنيف، ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟



فحريٌّ بنا أن نستلهم العبر والعظات، والدروس والمهمات، من أئمة الهدى ومصابيح الدجى في الظلمات، والحذر من موافقة النفس الأمارة بالسوء فيما تدعو إليه من محبة العاجل، والسعيد مَن خفَّ عليه الحساب في الآجل، ونحن بمَنٍّ من الله وفضله على أبواب رمضان، وبلوغ شهر الطاعة والغفران.




اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها.



هذا، وصلوا على حبيبنا المختار، محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأخيار، ومن تبعهم بإحسان إلى أن تبعث النفوس وتكشف الأسرار.







المصدر...


الساعة الآن 10:03 PM

Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved. منتديات

mamnoa 2.0 By DAHOM