شبكة ربيع الفردوس الاعلى

شبكة ربيع الفردوس الاعلى (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/index.php)
-   تفريغ المحاضرات و الدروس و الخطب ---------- مكتوبة (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/forumdisplay.php?f=350)
-   -   حضارة الإسلام (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/showthread.php?t=226824)

ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران 02-01-2016 03:29 PM

حضارة الإسلام
 
حضارة الإسلام


الشيخ أسامة بن عبدالله خياط



ملخَّص الخطبة:
1- الجَوْر في الحكم على حضارة الإسلام.

2- فضل الإسلام.
3- في نطاق المعتقَد.
4- في نطاق العلم.
5- في نطاق المادَّة.
6- في نطاق الحقوق.
7- في نطاق الغريزة.
8- تَقَهْقُر المسلمين.
♦ ♦ ♦


الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله فتقوى الله دَيْدَن الأيقاظ من عباد الله، الذين يخشون ﴿ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ ﴾ [النور: 37].

أيها المسلمون:
عند اضطراب الألباب، والْتِياث العقول[1]، وغَلَبة الأهواء، واستحكام العداء، وغَيْبَة العدل، يضلُّ أقوامٌ عن سواء السبيل؛ فيجورون في الأحكام التي يطلقونها ذات اليمين وذات الشمال، ويَحيفون في الأقوال التي يُلْقُونَها على عواهِنِهَا بِغَيْرِ اسْتِبانَةٍ وَلا تَثبُّتٍ، ودُونَ تَدَبُّر ولا تَفَكُّر؛ فتكون العاقبة عِنْدَ ذَلِكَ ظلمًا مبينًا، وإساءًة مسيئةً، وتحاملاً مجحِفًا، لا يَسَع أُولي النُّهي الإغضاء عنه، ولا السكوت على عِوَجِه، حتى يظل وجه الحقِّ مُسْفِرًا، وحتى تبقى مهمَّة التَّذكير حيَّة كما أمر الله، ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ﴾ [الغاشية: 21 - 22].


فمن هذه الأحكام الجائرة، والإطلاقات الظالمة، والدعاوى التي لم تَقُمْ عليها البيِّنات، ولم تُسْندها البراهين، ولم تُسْعفها الحُجَج: الزَّعْم بأن الحضارة المنبثِقة عن هذا الدِّين الحقِّ دين الله أدنى مقامًا وأقل سموًّا من غيرها، وأنَّ لغيرها من التفوق والأثر والنُّجح ما ليس لها، إلى غير ذلك مما هو أثرٌ من آثار إغماض الأجفان عن ذلكم الهدى والنور الذي جاء من عند الله الحكيم الخبير، وثمرة من ثمار الحَيْدة عن سبيل الإنصاف، والتنكُّب لطريق العدل، والتنكُّر لفضل ذوي الفضل.


عبادَ الله:
إنَّ هذا الدِّين الحقَّ هو الذي أرسى اللهُ به قواعد الحضارة المُثْلَى، وأقام به ركائزَ ومقوِّمات النهضة الكبرى، التي سَعِدَتْ في ظلالها الأمم والشعوب، والأفراد والجماعات في ماضي الأيام، وسوف تَسعد بها كذلك إن شاء الله في حاضرها ومستقبلها.

تلك الحضارة التي أسفرت آثارها عن جمال وجهها، وجلال غايتها، ورقيِّ منازلها، وإن السموَّ الحضاري في هذا الدّين لتتَّضح معالمه، وتستبين قَسَماته، وتتجلَّى خصائصه بالنَّظر المتأمِّل في ركائزها وأُسُسها.

ففي نطاق المعتقَد: عبوديَّةٌ كاملةٌ لله وحده، ونبذٌ لعبودية الأرباب من دونه في مختلف صورها وألوانها كما قال سبحانه: ﴿ قُلْ يا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 64].


وفي تعبيد العباد لله ربِّهم وهدم عبودية الأرباب من دونه: انتهاضٌ عَقَدِيٌّ، وارتقاءٌ عقليٌّ، وكمالٌ نفسيٌّ، يُبْتَنَى عليه أساس البناء الحضاري الرَّاسخ للأمَّة؛ إذ إنه يجعل عُمْدَة الالتقاء وآصِرَة الاجتماع هو سبب التكريم، ومنشأ التمييز المعتقدَ الصحيحَ والتقوى، لا العنصر أو اللون أو القوم أو الأرض، كما قال سبحانه: ﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات: 13].

وفي نطاق العلم: عنايةٌ فائقةٌ، ورعايةٌ ظاهرةٌ للعلم وأهله في جميع ميادين العلم النافع؛ لأنه لا يستوي مَنْ يعلم ومَنْ لا يعلم، كما قال سبحانه: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الألْبَابِ[الزمر: 9]، ورفع سبحانه الذين أوتوا العلم مقامًا عليًّا؛ فقال عزَّ اسمه: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة: 11]، ولم تَقُمْ في هذه الحضارة خصومةٌ بين الدِّين والعلم مطلقًا؛ لأن العلم الصحيح رديف الوحي في تثبيت الهداية والإرشاد إلى الصراط المستقيم، ولذا كان أثر هذا العلم في القلوب مَطْمَحَ أولي الأبصار، ومَقْصِد الرَّاسخين في العلم، ومُبتغى أهل الصدق والإخلاص، وذلك هو خوف الله وخشيته كما قال سبحانه: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر: 28].


وفي نطاق المادَّة: هذه الإفادة مما سخر الله تعالى للإنسان من مذخور الكنوز ومكنون الخيرات، وتوجيهها نحو كلِّ خيرٍ للإنسان وسائر ما خلق الله من شيءٍ، فلا ازدراءَ للمادة، ولا كراهةَ للإنتاج المادي المسخَّر للمنافِع دون المضارِّ، ولا مغالاةَ أيضًا في قيمة هذا الإنتاج؛ حتى لا يكون أكبر الهمِّ، ومَبْلَغ العلم، ومنتهى الأمل، وكي لا تكون الغاية وفرة المكاسب، وتضخيم الأرْصِدَة، بل ما ينفع الناس ويَمْكُث في الأرض.

وفي نطاق الحقوق: هذا التشريع الحقوقي الفذُّ المتفرِّد، الذي جاءت به هذه الشريعة المكرَّمة، والذي لم يغادر صغيرةً ولا كبيرةً من حقوق الفرد والمجتمع والأمَّة ومن واجبات كلِّ فريق - إلا أحصاه وبيَّنه، وأوضح دقائقه، وجلَّى غوامضَه، بعيدًا عن الأنظار البشرية القاصرة، المحدودة بحدود الأزمنة والأمكنة، سالمًا من عِلَل الأهواء المتَّبعة وأوضار[2] المصالح الشخصية، وأدران القوميَّات والعصبيَّات المفرِّقَة؛ لأنَّهُ تشريعُ رب العالمين، وحُكْمُ أحكم الحاكمين.


وفي نطاق الغريزة: بإقامة العلاقة بين الرجال والنساء على قاعدة النِّكاح لا السِّفاح واتِّخاذ الأخدان، وإباحة كلِّ أنواع العلاقات المنحرفة الشاذَّة، بحراسةٍ من القانون الوَضْعِيِّ، وتحت شعار حماية الحقوق والحريَّات الشخْصِيَّة؛ لأنَّ ميدان الأسرة هو المجال الطاهر الذي يُلبَّى فيه نداء الفِطْرة، ويُرْوَى فيه ظَمَأُ الغريزة، وتُربَّى فيه ثِمارُ تِلك الصِّلة الطاهرة من أجيال الأمَّة تربيةً قويمةً سالمةً من أدران الانحراف، محفوظةً من أوضار الضياع ومسارب البَوَار، وكلّ ذلك - يا عباد الله - مِمَّا جاء به هذا الدِّين، وارْتَكَزَتْ عليه حضارته، هو مِمَّا شَهِدَ بِسُمُوِّهِ ورِفعته قادةُ الفكر وروَّاد العلم وكتَّاب التاريخ، ممَّن لا يعتنق هذا الدّين ولا يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ، في شهاداتٍ منشورة، واعترافاتٍ مدوَّنة، وأقوالٍ معلومة مشهورة، وليست حضارة المسلمين في طُلَيْطِلَة وإشْبِيلِيَّة وغَرْناطة وقُرْطُبَة وغيرها من بلاد الأندلس إلاَّ وجهًا مضيئًا ولسانًا صدوقًا ومثالاً حيًّا من دُنْيا الواقع، لم يملك مَنْ نَظَر إليه وعَرَفَ أبعاده إلاَّ أن يُقِرَّ بفضله ويلهج بغَنائه، ولا عجب أن تكون لهذه الحضارة هذه المنزلة؛ فإنها ثمرةُ وحْيٍ ربَّانيٍّ، ونتاج دينٍ إلهيٍّ، من لَدُن حكيمٍ خبيرٍ، يعلم مَنْ خلق، ويهدي مَنْ يَشاء إلى سواء الصِّراط.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ ﴾ [البقرة: 138].

نَفَعَنِي اللَّهُ وإيَّاكم بهَدْيِ كِتابه، وبسنَّة نبيِّه.

أقول قولي هذا وأستغفِرُ الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثَّانية
إنَّ الحمد لله، نَحْمَدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَنْ يَهْدِه الله فلا مضلَّ له، ومَنْ يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصَحْبه، والتابعين ومن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.


أما بعد:
فيا عباد الله، إنَّ واقع المسلمين اليوم لا يصحُّ أن يكون باعثًا على الحُكْم على حضارة الإسلام؛ فإن مجال الحكم لابدَّ أن يكون على الأصول والثَّوابت والمبادئ والقِيَم، والممارسة الواقعية التي آتت أُكُلَها وأينعت ثمارها، حين كان المسلمون يغذُّون السَّيْر، ويحثُّون الخُطا، ويتَّبعون الهدى، ويعمَلُونَ بنَهْج خير الوَرَى - صلوات الله وسلامه عليه. أمَّا ذلكم التَّقَهْقُر والتَّراجع والتخلُّف والهوان الذي مُنيَ به المسلمون عقب تلك العصور الخوالي - فهذا مما لا يرتاب أولو الأبصار في أنَّ تَبِعَتَه لا تقع على الإسلام وحضارته، وإنَّما جريرةُ ذلك على مَنْ فرَّط وأضاع، واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وأعرض عن ذِكر ربِّه؛ فكانت معيشته ضنكًا، وكان أمره فُرُطًا، ﴿ وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49].

ألا فاتَّقوا الله عباد الله، وصلوا وسلموا على الحبيب رسول الله...

[1] أي: صارت لَيْثِيَّة النَّزْعة.
[2] جمع (وَضَر): وهو وسخ الدَّسم أو غُسالة السِّقاء.






المصدر...


الساعة الآن 12:03 PM

Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved. منتديات

mamnoa 2.0 By DAHOM