شبكة ربيع الفردوس الاعلى

شبكة ربيع الفردوس الاعلى (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/index.php)
-   الموسوعة الضخمة مواضيع اسلامية هامة جداااااااااااااااااااااااا (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/forumdisplay.php?f=294)
-   -   الغلو والبدعة (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/showthread.php?t=162700)

ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران 07-24-2015 05:25 AM

الغلو والبدعة
 



الغلو والبدعة (1)



الشيخ أحمد بن حسن المعلِّم


المقدمة


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.




أما بعد:

فإن الوضع الذي تعيشه الأمة الإسلامية لا يخفى على أحد، والحرب العالمية الشاملة التي تواجهها لا يماري فيها عاقل، ولا يأمن مغبتها من يشاهد ملامحها، ويدرك بواعثها، ويدري دارية صحيحة بالسنن الإلهية التي بموجبها قامت، وبموجبها يحصل الظفر، أو المزيد من الانكسار للأمة، وأبرز أسباب ضعف الأمة وتسلط أعدائها عليها هو ضعف إيمانها، ولن تتنسم نسيم المجد والتمكين إلا إذا عملت على زيادة الإيمان وتقويته في النفوس: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، وهناك معوقات كثيرة تحول دون تقوية الإيمان من الانحرافات العلمية والعملية، ومن تلك الانحرافات " الغلو " الذي يبعث على العديد من الأمراض التي تضعف الإيمان، والابتداع وهو إن كان من مظاهر الغلو إلا أنه أعظم وأخطر تلك المظاهر؛ لذا فقد أحببت أن أقدم هذه الورقة عن هذين العائقين من عوائق الأعمال الصالحة، التي بها يقوى الإيمان؛ مساهمةً في ندوة تقوية الإيمان، التي تقيمها جامعة الإيمان - سلمها الله من كيد أعدائها - أسأل الله أن يجعل هذه المساهمة خالصة لوجهه، نافعة ومكملة لما يتقدم به الإخوة العلماء والدعاة، وإن كانت البضاعة مزجاة، فأسأل الله العفو عن الزلل، والبركة في العمل، إنه سميع مجيب.



الفصل الأول: الغلو

المبحث الأول: تعريف الغلو:

أ) الغلو في اللغة:

اتفقت كلمة علماء اللغة على أن الغلو هو مجاوزة الحد[1]، والارتفاع بالأمر عما هو عليه في الحقيقة[2]، ويطلق أيضاً على التشدد والتصلب[3].




ب) الغلو في الاصطلاح:

هو:المبالغة في الشيء، والتشديد فيه بتجاوز الحد، وفيه معنى التعمق)[4] والشيء هنا شامل للعقائد، والعبادات، والمعاملات، والحب، والبغض، والنظر إلى الأشخاص والأعمال، والحكم عليها.




المبحث الثاني: نصوص الكتاب والسنة الناهية عن الغلو:

لقد تكاثرت نصوص الكتاب والسنة الناهية عن الغلو، وجاءت متنوعة بأساليب مختلفة: فمن أساليب القرآن الناهية عن الغلو:

1- إلزام جميع أفراد الأمة أن تقرأ في كل ركعة من صلاتها هذا الدعاء العظيم من سورة الفاتحة ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ﴾. والصراط المستقيم هو: (ما جمع خمسة أوصاف: أن يكون طريقا ًمستقيماً، سهلاً، مسلوكاً، واسعاً، موصلاً إلى المقصود، فلا تسمي العرب الطريق المعوج صراطاً، ولا الصعب المشق، ولا المسدود غير الموصل )[5] فهذا الدعاء يتضمن تجنب طريق الغلو، وطريق الجفاء، والهداية إلى ما هو وسط بينهما. وقد عرف عن النصارى غلوهم الشديد في عيسى وأمه حتى نقلوهما إلى مرتبة الربوبية[6].




بل إن معظم الانحرافات في الديانة النصرانية كان سببها الغلو[7]، لذلك فإن الداعي بذلك الدعاء إنما يدعو أن يجنبه الله غلو النصارى وضلالهم، كما يدعو أن يجنبه جفاء اليهود وإلحادهم.




2- وصف الأمة بالوسطية: وذلك في قوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [8].




والوسطية لها معان كثيرة، ولكن من أشهرها وأليقها ببحثنا: الاعتدال والتوسط بين الإفراط والتفريط، كما اختار ذلك شيخ المفسرين الإمام الطبري - رحمه الله -[9]، وفي ذلك غاية التأكيد على أن الأمة الإسلامية بعيدة عن الغلو، كما هي بعيدة عن الجفاء. وذلك من أعظم ركائز خيريتها.




3- النهي عن تعدي حدود الله: وذلك في قوله تعالى: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [10]، والحدود هي النهايات لكل ما يجوز من الأمور المباحة المأمور بها، وغير المأمور بها تعديها هو تجاوزها، وعدم الوقوف عليها[11].




4- النهي الموجه إلى أهل الكتاب عن الغلو الذي يتضمن نهينا نحن عنه؛ كون العلة فيه قائمة، والآثار المترتبة على غلوهم موجودة، وفاعله في هذه الأمة: وذلك في قوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً [12]، وقال سبحانه: ((﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [13]. وهناك نصوص قرآنية أخرى يمكن الاستدلال بها على النهي عن الغلو تركتها للاختصار.




وكما نهى القرآن عن الغلو، نهى عنه الرسول الله صلى الله عليه وسلم وبأساليب مختلفة كذلك منها:

1- النهي الصريح والمباشر عن الغلو، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة لقط حصى الجمار، فعنه أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة جمع: (هلم القط لي الحصى)، فلقطت له حصيات من حصى الخذف، فلما وضعهن في يده قال: (نعم، بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك الذين من قبلكم الغلو في الدين)[14].




2- بيان مصير الغالي وعاقبته، وأن مصيره الهلاك: كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هلك المتنطعون} قالها ثلاثاً[15]. قال النووي - رحمه الله -: (أي المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم )[16].



3- الإخبار عن طبيعة هذا الدين، وأنه يسر، وإنه لن يشاد الدين أحد إلا غلبه: كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: ((إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة))[17]. قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: ( والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية، ويترك الرفق إلا عجز، وانقطع فيُغلب، قال ابن المنير: في هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع )[18].



4- تربيته صلى الله عليه وسلم لأصحابه عند المناسبات، وعند ظهور الغلو، وإرشادهم إلى فساده، ومجانبته لمنهجه صلى الله عليه وسلم، وعاقبته الوخيمة، وقد ورد فيما يخص غلو الإنسان في عبادته، ومعاملته ربه، وفيما يتعدى، ويتعلق بمعاملة الخلق، والحكم عليهم: فمن الأول موقفه صلى الله عليه وسلم من الثلاثة النفر الذين تقالوا عبادته؛ فآلوا على أنفسهم أن يجاوزوها، ويشددوا على أنفسهم في العبادة بما هو أبلغ من عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أنس رضي الله عنه قال: ((جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي أبداً، وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني))[19]، فهكذا عالج النبي صلى الله عليه وسلم هذه الظاهرة، وقضى عليها في مهدها، وأرسلها قاعدة لأمته: أن الحق لا يمكن أن يكون في الغلو، وتجاوز ما اختاره لنفسه صلى الله عليه وسلم.




وأما ما يخص النظر إلى الآخرين، والحكم عليهم، فقد ظهر في رده على من غلا في تحري الحق بزعمه، وتنقصه لحكم النبي صلى الله عليه وسلم، وموقفه منه، وتحذير النبي صلى الله عليه وسلم منه، وممن هو على شاكلته، وذلك كما في حديث أبي سعيد الخدري قال: ((بعث النبي صلى الله عليه وسلم بذهبية فقسمها بين أربعة)) وذكر الأربعة، ثم قال: فتغيضت قريش والأنصار، فقالوا: يعطيه صناديد أهل نجد ويدعنا، قال: إنما أتألفهم، فأقبل رجل غائر العينين، ناتئ الجبين، كث اللحية، مشرق الوجنتين، محلوق الرأس، فقال: يا محمد اتق الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فمن يطع الله إذا عصيته؟ أفيأمنني على أهل الأرض، ولا تأمنوني؟))، فسأل رجل من القوم قتله - أراه خالد بن الوليد - فمنعه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن من ضئضئ هذا قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد))[20] فترى النبي صلى الله عليه وسلم هنا عندما ظهر الغلو من هذا الرجل في نظرته إلى النبي صلى الله عليه ويسلم، وحكمه عليه، استغلّ المناسبة فحذر منه، وممن على شاكلته ممن سيأتي في المستقبل مبيناً مدى غلوهم الذي به يمرقون من الدين، وأشار إلى ما يجب إزاءهم من الموقف الصلب الذي يصل إلى قتلهم؛ وذلك لأن الدرجة التي وصلوا إليها من الغلو لا يجدي فيها الجدل، والدفع بالتي هي أحسن. وفي نفس الوقت أبى أن يقابل الغلو بغلو مثله حين سئل الإذن بقتله، وهذا غاية العدل، وإن من اشتط وغلا فإن مقابلته لا بد أن تكون بالعدل، وألا نغلوا في مواجهته والرد عليه، كما غلا هو في الابتداء.




فهذه النصوص القرآنية والنبوية ظاهرة الدلالة على قبح الغلو وخطورته، وعظيم أثره على الأمة، وأن ذلك الأثر لا يقتصر على جانب من الجوانب، بل هو شامل لجوانب متعددة: فهو يفسد العقائد، وينحرف بالعبادات عن وضعها الصحيح، ويخل بالنظر إلى الآخرين، ويؤدي إلى الظلم في الحكم عليهم، ويدفع أصحابه إلى اتخاذ مواقف عدائية جائرة من إخوانهم المسلمين، ومن غير المسلمين.




ومن هنا كان ظهور الفِرَق المخالفة للسنة؛ سببه الغلو إما في تضخيم شيء على حساب آخر، مثل الذين قدسوا العقل، وحكّموه في الوحي، أو في المتبوعين كالذين غلوا في فلاسفة الشرق والغرب، وأقاموهم مقام النَّدْيّة للرسول صلى الله عليه وسلم، وأئمة الدين، بل قدموهم عليهم، أو في أشخاص كغلو فرق الشيعة والصوفية، أو في التعبد بما لم يشرع الله، أو التنطع، والتكلف في فهم النصوص كما هو شأن الخوارج، ومن سار على شاكلتهم، أو في مواقفهم من الآخرين، وفي الحكم عليهم.




المبحث الثالث: معالجة السلف - رحمهم الله - ومن تبعهم من العلماء لمظاهر الغلو:

ظهرت في عهد النبي صلى الله عليه ويسلم بعض ملامح الغلو على تصرفات بعض الصحابة، وهي في العبادة والمبالغة فيها غالباً، فبادر من رآها منهم إلى إنكارها، ثم ذكروها للرسول الله صلى عليه وسلم فأيد من أنكرها:

من ذلك قصة سلمان الفارسي وأبي الدرداء رضي الله عنهما حينما آخى بينهما النبي صلى عليه وسلم، فرأى سلمان أم الدرداء مبتذلة، فسألها عن ذلك، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاماً، فقال له: كلْ، قال: إني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل. فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم. فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا. فقال سلمان: إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((صدق سلمان))[21]. وهكذا حينما أحس عمرو بن العاص بمبالغة ابنه عبد الله في العبادة، وعدم التفاته إلى زوجته التي زوّجه إياها، وحاوله أن يرجع عن ذلك، فلم يفعل عبد الله حتى ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فاستدعاه، وبين له ما هو الأفضل في العبادة، من الصلاة، والصوم، وقراءة القرآن، وكيف يجمع بين ذلك وبين أداء حق أهله[22].




وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وانتشار الإسلام، ودخول الأمم في دين الله وتحمل الكثير مما كانت عليه مجتمعاتها: من عقائد، وعادات، وسلوك، خيف ظهور الغلو في هذه الأمة، فقاوم الصحابة ذلك مقاومة كبيرة، وكان من أبرزهم في ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه إبان خلافته، وله مواقف مشهورة في ذلك منها:

أ‌- إنكاره على من يتتبع آثار الرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمواضع التي تعبد فيها، فعن المعرور بن سويد - رحمه الله - قال: [ خرجنا مع عمر بن الخطاب فعرض لنا في بعض الطريق مسجد فابتدره الناس يصلون فيه، فقال عمر: ما شأنهم؟ فقالوا: هذا مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: أيها الناس إنما هلك من كان قبلكم باتباعهم مثل هذا، حتى أحدثوها بيعاً، فمن عرضت له فيه صلاة فليصل، ومن لم تعرض له فيه صلاة فليمض ] [23].



ب‌- موقفه عندما قبّل الحجر الأسود، ثم توجه إليه قائلاً: [ إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك ][24].



ولعلي رضي الله عنه مواقف عظيمة في محاربة الغلو، لم تقتصر على مجرد الكلام، إنما تعدت إلى الفعال، بل إلى القتل والقتال:

فحينما ظهرت السبئية الغالية، وادَّعوا فيه الألوهية، حاورهم ونصحهم لعلهم يرجعون عن مقالتهم، فلما يئس من ذلك حرّقهم بالنار، وقال مقالته المشهورة:

لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري ودعوت قنبراً[25].



ونحو ذلك فعل مع الخوارج الغلاة، حينما ظهر غلوهم وأعلنوا الخروج على جماعة المسلمين، واستباحة دماء مخالفيهم، وبعد أن انسد باب الحوار معهم، قاتلهم حتى كاد أن يفنيهم، ومعه الصحابة، وكبار التابعين، مع أنه لم يكفرهم، بل حينما سئل: أكفارٌ هم؟ قال: [ من الكفر فَرُّوا ].




وهكذا توالت تلك المواقف من الغلو، فللتابعين مواقفهم، ولأتباعهم وأئمة الدين، وعلماء المسلمين حتى يومنا هذا، وهذه المواقف لا يتسع المقام لذكرها وتفصيلها في هذا البحث المختصر.




المبحث الرابع: دواعي حرص السلف لمواجهة الغلو:

تلك هي بعض مواقف الصحابة رضي الله عنهم في مواجهة الغلو، وقد كان لتلك المواقف دواعي ومسوغات من أهمها:

أنه السبب الرئيس للفرقة، والنزاع، وظهور الفرق المختلفة التي يكفر بعضها بعضاً، ويضلل بعضها بعضاً، وينشغل بعضها بمحاربة البعض الآخر عن جهاد العداء، والعمل على نشر الدين، وبناء حضارته، وتوسيع كيانه.




ومنها: أنه الباب الذي دخل منه المغرضون، والمتآمرون على هدم الإسلام من داخله، فعبد الله بن سبأ اليهودي دخل من باب الغلو فأسس عليه نحلة الرفض التي لا تضاهيها في كثرة بدعها، وشدة نيلها من الإسلام نحلة أخرى، وعبيد الله القداح دخل منه كذلك، وأسس الباطنية ذلك الخنجر المسموم الذي غرز في جنب الأمة الإسلامية فاستمر نزيفه القاتل إلى اليوم، ولم يقف عند باطنية الشيعة، بل فرّخ باطنية الصوفية التي طبق أتباعها جمع أقطار العالم الإسلامي، وما زالوا يشكلون وصمة عار في جبين الأمة، وعقبة كئود في سبيل نهضتها. وهذه الفرق غلوها في الرجال غالباً، وتبع ذلك ضروب من الغلو في العقائد، والعبادات.




ومن باب الغلو دخل الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، وهما غاليان في العقل، مقدمان له على نصوص الوحي، مقدسان لأقوال الفلاسفة، مقدمان لها على أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وبسبب ذلك انتشرت بدع التعطيل في الأسماء والصفات، وبدع الإرجاء، والجبر، وكلها مما أصاب الأمة في مقتل، ومازال أثرها ظاهراً للعيان إلى اليوم.




ومنها: أن تكفير الأمة، واستحلال دمائها، وأموالها جاء من طريق الغلو، كما هو الشأن في الخوارج.




ومنها: أن الأفراد المغالون في عقائدهم، وأعمالهم قد أهلكوا أنفسهم، وعطلوا طاقاتهم، بأنفسهم، واحتقروا عمل سواهم، ولو كان من أفضل الأعمال، واسمع إلى أحدهم وهو يعنف الإمام مالكاً، ويعاتبه أن أضاع وقته وجهده في حفظ الحديث ونشره، ولم يتفرغ لإصلاح نفسه وتزكيتها بالعبادة، ظاناً أن العبادة ما هي إلا قيام الليل، وصيام النهار، ومداومة الذكر، فرد عليه الإمام العالم المدرك لحقيقة العبادة وشموليتها بقوله: [ إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، ونشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير )[26].



هذه بعض مساوئ الغلو التي حملت السلف رضي الله عنهم على محاربته ومقته. وسواها كثير.




المبحث الخامس: أنواع الغلو:

والغلو ينقسم إلى قسمين أساسيين هما:

1- غلو كلي اعتقادي.

2- غلو جزئي عملي.




القسم الأول: الغلو الكلي الإعتقادي: والمراد به ما كان متعلقاً بكليات الشريعة الإسلامية، وأمات مسائلها. والمراد بالإعتقادي ما كان متعلقاً بباب العقائد فهو محصور في الجانب الإعتقادي الذي يكون منتجاً للعمل بالجوارح، وأمثلة هذا النوع كثيرة منها: الغلو في الأئمة وادعاء العصمة لهم، أو الغلو في البراءة من المجتمع العاصي، وتكفير أفراده واعتزالهم.




ويدخل في الغلو الكلي الإعتقادي، الغلو في فروع كثيرة، إذ أن المعارضة الحاصلة به للشرع مماثلة لتلك المعارضة بالغلو في أمر كلي[27].



القسم الثاني: الغلو الجزئي العملي: ( والمراد به ما كان متعلقاً بجزئية أو أكثر من جزئيات الشريعة الإسلامية.




والمراد بالعملي ما كان متعلقاً بباب العمليات، فهو محصور في جانب الفعل سواء أكان قولاً باللسان أم عملاً بالجوارح[28]

والعملي هنا المراد به ما كان عملاً مجرداً ليس نتاج عقيدة فاسدة، فأما إن كان كذلك فهو غلو عقدي وبالمثال يتضح المقال:

الذي يقوم الليل كله يعد غالياً غلواً عملياً.

الذي يعتزل مساجد المسلمين؛ لأنه يراها مساجد ضرار، هذا غال غلواً كلياً اعتقادياً) [29].



فهذان قسما الغلو، ومن المهم اعتبارها عند البحث في الغلو، حتى لا نغلو في نسبة الغلو إلى من ليس بغال، ولا نخلط بين أقسام الغلاة.




المفهوم المعاصر للغلو: من يتأمل ما سبق من تقسيم الغلو، أو يقرأ أنواع الغلو والغلاة في الكتب المتخصصة سيجد أن السلف - رحمهم الله - أرجعوا الغلو إلى الاختلال في العقيدة، أو في مفهوم العبادة، أو في السلوك المبني غالباً على أحد النوعين السابقين.




وكان تعاملهم مع الغلو شاملاً لجميع أنواعه، وجميع فئات الغلاة، سواء منهم من كان غلوه فيما بينه وبين الله، أو بينه وبين نفسه، أو بينه وبين الناس.




أما ما هو متداول اليوم من بحث في الغلو، وتحديد لحقيقته، ومظاهره فإنه يختلف كثيراً عما كان عليه عند العلماء.




إذ كان مصدر محاربة الغلو اليوم ليس هو الشرع والوحي المعصوم، وإنما الهوى المستحكم، وإرادة أعداء الدين الذين يعملون أساسا ًعلى خلط المفاهيم وقلب الحقائق: فأغفلوا اللفظ الشرعي ( الغلو ) واستبدلوه بلفظ محدث ( التطرف )، وهو لا يساوي مفهوم ( الغلو ) مساواة كاملة، بل إنه يزيد عليه، حيث يشمل من ابتعد عن الوسط وسلك الطرف، أياً كان هذا الطرف، سواء طرف الغلو، أو طرف الجفاء والتساهل، وهذا التحريف ليس هو الأسوأ، لكن الأسوأ منه أنه لم يستعمل إلا في نوع واحد من أنواع الغلو: وهو الغلو في معاملة الناس، والنظر إليهم، والحكم عليهم، وأسقط من عداهم من الغلاة من القائمة، فالغلاة في العقائد، وفي العبادات، وفي الأشخاص كل أولئك إذا لم يتبرءوا من الكفار، ويجاهدوهم في الله، فهم من أهل الاعتدال والوسطية! وهذا ما دأب عليه رجال السياسة والإعلام إلا من رحم الله.




وأقبح من ذلك أن يجعل من الغلو ما هو محض الاعتدال، وأساس الشرع، وأصل الدين. فالجهاد من حيث هو، بل من حيث التلفظ به غلو، والبراءة من الكفار، بل الكفر بالطاغوت الذي لا إسلام إلا به هو كذلك من الغلو في المفهوم المعاصر للغلو، بل على مستوى العبادة فالحزم فيها، والإتيان بها كما شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم غلو، والحجاب غلو، والتفريق بين الرجال والنساء غير المحارم غلو.. وهكذا، وهذا التحريف لمفهوم الغلو من أخطر المؤامرات التي استطاع الأعداء أن يوقعوا في شراكها الكثير من قادة الفكر المسلمين، وآثارها لا حصر لها، إن لم يتدارك علماء هذه الأمة، ويحرروا المفاهيم الصحيحة، ويشيعوها بين الناس، ويربوهم عليها، ويزيفوا المفاهيم الدخيلة، والمحرفة، ويكشفوها للناس، ويحذروهم منها.







يتبع


المصدر...


الساعة الآن 12:42 AM

Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved. منتديات

mamnoa 2.0 By DAHOM