« مُذهبات الفوائد من « مذكرات قارئ » للأحمري »
[ بسم الله الرحمن الرحيم ] تحفر مناسباتٌ وأحدَّاثٌ على جدار الذكريات حفراً يستَّيئسُ الحدثان مِنْ محوها وإن طال تقلبهما . . --------------- « مذكرات قارئ » تأليف / محمَّد حامِد الأحمري * * * « مُذهبات الفوائد من « مذكرات قارئ » للأحمري » (1) [ صـ6 ] هوّن عليك وأخّر نشر ما تحب من الكتب، فتأخيره خير لك، وكل بقاء له باليد يصقله، ويزيده ولا ينقصه، وتميت فكرة ضعيفة وتبعث أقوى . * (2) [ صـ 7 ] وقريبا مما حدث لماركيز واجهته كثيرا مع موهوبين مستعجلين، لا يصبرون على نصوصهم، ويملون منها فتتردى. والكتاب الجيد يحتاج إلى مراجعة وأناة وزمان؛ لأنه يبحث عن قارئ يقول عند الصفحة الأخيرة: رائع، قد آن لي أن أعيده، فلم يكن ممتعا فقط، بل مفيدا، وإن لم يقل هذا وعد نفسه أن يعيده. وقلة من الكتب وجدتها كذلك، وندرة أعدتها مرات، ولا أندم، فالكاتب الجيد يصنع لك رفيقا ناصحا وصديقا أمينا، يريد من فنه أن يكون مستحوذا، ومن فكره أن يكون واضحا، ولا يريد أن ينبهك غلافه لتراه أو تشتريه، كما تتنبه لصوت فتصغي له قليلاً ثم يذهب في الزحام. إن النص الجيد يبحث عن مكان في العين والقلب والذاكرة، وكما ترى هنا فلم تكن الأناة قاتلة، كما يحدث كثي ً را، فكتابي ولدت فكرته في عنفوان الشباب، ونشرت منه وأشرت إليه، وعساه الآن ألا يفقد حكمة الشيوخ . * (3) [صـ 8 ] ولأن القراءة والكتابة توأمان، فقد تعرضت لقضايا في الكتابة في هذا السياق، والكتابة بعد المعرفة صيد للفكرة، وصيد للوجدان. وقد يجملون الجانبين في المزاج، فالكتابة الجيدة لها شروط وجود عديدة، وهي كبقية الفنون يحاولها كثيرون ويجيدها الأقلون، وإن لم يكن صاحب الفكرة قاد ً را على صيدها وتسجيلها ثم التفكير فيها وصياغتها ذهبت منه. وكذا الشاعر إن لم يحبس لحظة الوجدان ويسجلها، فلن يكون قاد ً را على أن يكون شاعراً. * (4) [ صـ 13 ] واعلم أن النص الذي تقرؤه لا ينفك يعيش مع مشاعر حياتك الأخرى ولحظة معاناتك، ويلقي على نص قديم مشكلة اللحظة ومشاعرها، فـرسالة تقرؤها تبكيك اليوم، ولكنها لا تثير فيك نفس المشاعر غداً، وبيت شعر يكبر عندك الآن، ولكنك قد تراه بارداً بعد وقت! فاستمتع بلحظة إقبال نفسك على شيء ما، ولا تكرهها عندما تدبر. * (5) [ صـ 15 ] إن القراء يأتون للكتب بحثا عن القوة، أو المعرفة، أو المتعة، أو العلاج. غير أن الكتب التي تأتيها مختا ً را قد تبقى معها دون اختيار، فتسجنك بلا وعي بقيودها، وقد تسلبك القوة وأنت تتوهم أنها تعطيك، فالكتب تسلب الكثير من خلق الفطرة ومواهبها، كالبراءة والتذكر والملاحظة المطلقة قبل ورود العلوم، وقد تهوي بك بعض المعرفة في مغاور الجهل، بما تزعمه لك الكتب من علم قد لا يكون إلا معرفة ناقصة، وقد تفتح لك الكتب بابا للشقاء ! * (6) [ صـ 17 ] وأن النصوص الصعبة مانعة من القراءة، وحاجزة إذا تلقاها الطالب وهي أعلى من عمره العقلي، أو كانت لغتها بعيدة المنال فاللمسات الأولى للكتاب لمسات توجس وخوف وتهيب، كعالم جديد يدخله طفل صغير بكامل الدهشة، ثم تبدأ علاقة الوعي بالكتاب، علاقة ثقل عند بعض القراء، وعلاقة اندماج وحب عند آخرين، وأسرع الطلاب تولعا بالقراءة هم الذين يمتلكون مهارة القراءة مبكرا، أما من تأخرت قراءته فسوف يرى طوال حياته أن القراءة همٌّ وعبء ثقيل فإن اكتسب الطفل هذه المهارة مبكرا، وانبثق في روحه حب للاطلاع، فقد رسخ نفسه في لغة الكتب وأرضها الخضراء المنزلقة والمتحركة بشراهة. * (7) [ صـ 19 ] لا تذهب نفسك حزنا على أنك لم تستكمل من العلم مرادك، فذلك مالا تبلغه الهمم العالية، ولكن عليك أن تعلم أنك لن تكون كل شيء في زمانك، ولن تدرك الكثير من علومه، والتخصص يفيدك ويعلي معرفتك، ثم ضع بجوار تخصصك اهتمامات رافدة، وهي سترفد تخصصك مهما يكن من العلوم، وإن كان بعيدا جدا عن ميدانك . * (8) [ صـ 25 ] والكتب أنواع، فمنها: كتاب مستو ٍ ل على قارئه، يخدر أو يحاول القضاء على فريسته )القارئ،( وآخر محاور منبه ومستفز للعقل، أو مؤثر يذهب ويجيئ دون سبب ظاهر، وآخر يؤكد رغبات مجتمع ما وميوله، ويؤكد ثقافته ويريحه من الخلافات ويعيد ثقته بنفسه، ويصنع له أساطير تميز مريحة، وكتب أخرى هي من اللغط المنتشر، ومن الكتب ما هو وسط في جودته، وهذه أكثر ما بأيدي الناس، وهي تجلب ٍف الغم والبلادة، وقدي ً ما حذر الجاحظ من الفن الوسط، ونقل عن أحدهم قوله: والله لفلان أبغض من ظريف وسط ومن مغنٍ وسط . * (9) [ صـ 26 ] ولهذا تجد الكتب التي نثني عليها هي التي تكرر ما نعرف، وتقرر ما نحب، فنقبل الكاتب الذي يقول لنا ما نعرف، اعتدنا عليه، أو شرح ما خطر بالبال مما لم نتمكن من صياغته نحن. ونكره الكلام الجديد وإن كان حقا، ولهذا عشقنا في زمن التخلف أن يقتسم ديننا أربعة رجال في العصر العباسي، وأن يقتسم تفكيرنا رجلان : صوفي وسلفي أي: (الغزالي وابن تيمية)، وأن نحتشد في بقية العصور خلف هؤلاء أو هذين فقط، فليس لك الحق عند المذهبيين أن تخالف الأربعة، ولا عند الصوفية أن تخالف الغزالي، ولا عند السلفية أن تخالف ابن تيمية، فانتهى عالم العلم والفكر والعبادة، وأغلقوا الأبواب من خلفهم!! * (10) [ صـ 28 ] لو كانت الكتب تسوق لنا الفهم لكان أمر الفهم أمرا يسيرا، ولكانت البشرية أسعد بفهمها، ولكان الناس أقرب للملائكة ولأخلاق الأنبياء، ولكن الفهم مطلب عسير، تشيب هامة الشيخ الجليل وتنحني قامته وهو مكب على خير الكتب يطلب الفهم، ثم يغادر العالم وهو يأمل في فهم قد يجيء بعضه وقد لا يجيء، وقد كان ابن تيمية يعفر وجهه في المساجد القديمة ويقول : (يا معلم آدم علمني، و يا مفهم سليمان فهمني) ثم تجد شابا يشدو عل ً ما وهو فخور مختال بفهمه، يرى أن الشيوخ والشباب لم يعلموا علمه، ولم يفهموا فهمه!! إن هذا لا يسوءني، بل أطرب لغرارته، فهذا الجنون خطوة أولى ليبدأ طريق الفهم، وغرور منه سيشق بعده طريق الاستقلال بالوعي والمعرفة، فلا حرج في هذا وقد قالوا : ليت الشباب يفهم وليت المشيب يقدر." فمأساة الإنسان تكمن غالبا في هذا التضاد العجيب بين الشباب والحكمة؛ فعندما تكون أبداننا قادرة تكون أفهامنا ضعيفة، وعندما ينفتق الفهم تكون قوة الأبدان قد ضعفت أو غادرت، ولم يبق للمشيب إلا أن يعظ الشباب الشرود الجموح القوي المستكبر، فالشباب الطائش ملح الحياة وقوتها ومفتاح دروبها، قوة تشق الطريق في الكون فترسم دربا جديدا، أَْنعْم به من درب لو استمعوا في سبيلهم لحكمة الشيوخ ! * (11) [ صـ 29 ] وكما أن فرعا ضيقا يضيق الحياة والفكر، فإن البقاء الدائب مع الكتب بعيدا عن حركة الحياة اليومية مرض عضال، ونقص في التجربة والفهم. * (12) [ صـ 30- أ ] انظر للذين شغلوا أنفسهم بعيوب الكتب والكتاب، إن قراءتهم لم تنهض بهم عقلاً ولا سلوكاً ولا قدرة على الكتابة ولا القراءة الصحيحة. * (13) [ صـ 30 - ب ] فالهدف من القراءة والكتابة حراثة العقل وتقليبه وتجديده، وإنقاذه من الترهل والموت البطيء وليس العكس، فإذا أصبحت القراءة سجنا جديدا لذواتنا علينا أن نعاود النظر في آلية القراءة وما نقرؤه، القراءة هي النافذة نحو الحياة، لكنها ليست السجن الذي نحبس فيه؛ لأن هناك أشياء كثيرة تحبس العقل، وتجعله متلق ً يا سلب ًّ يا في حياتنا المعاصرة، فإننا "ما إن نترك مقاعد الدراسة حتى يترك العديدون منا عقولهم للتجمد، فلا نقوم بقراءة جادة، ولا نستكشف أية مواضيع جديدة بعمق حقيقي خارج دائرة عملنا، ولا نفكر بطريقة تحليلية، ولا نكتب بطريقة نختبر فيها قدرتنا على التحليل، وبدلاً من ذلك نجلس لمشاهدة التلفزيون". * (14) [ صـ 33] ومر زمن حتى قال لي نبيه مثقف: كيف استطعت أن تقرأ تلك الكتب في تلك البيئة؟ بل من دلَّك عليها؟! قلت: الكتب يجر بعضها بعضا. ويأتي الغث مع السمين، وينبت الشوك على درب الحبل (الكرم) و "من أجل الورد نسقي العليق" . * (15) [ صـ 35 - أ] وهكذا تجدون أن الرد أحيانا ينم عن جهل الراد، وضعف تبصره في طريقة التعامل مع الحوادث والبدع. فجزء كبير لا يريد إلا البحث عن نقد ورد، فنجاحه في استثارة الكلام عنه، وشيوع خبره، وإن كان محض كذب. وقد وجدت في ترجمة الإمام أحمد عند الذهبي التالي : قال أبو قلابة: لا تجالسوا أهل الأهواء -أو قال أصحاب الخصومات- فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويلبسوا عليكم بعض ما تعرفون. * (16) [ صـ 35 – ب ] واعلم أن الأفكار مصدر للشقاء، كما هي مصدر للسعادة، ففيها نوافذ للنور، وبها دروب شائكة للعتمة، ولها لذة كما لها ألم بئيس لا يرحم، ولا يتركك تخلو هانئ البال إلى وسادتك، ولكنها تفتق العقل فتخرجه لما هو أبعد من مداه، فإما أن ترده مهديا راشدا، وإما أن تعود به مرهقا معذبا بما لا يطيق . * (17) [ صـ 36] والقراءة حين تتحول إلى عادة، يصبح الإنسان أكثر قدرة على التعاطي مع الكتاب ومرافقته، إلا أن هذا الانسجام لا يجب أن يصل إلى حد الذوبان، فإن من الخطر الاستسلام للكتب دون تفكير فيها وفي النصوص المقروءة، وكذا الثقافة الباردة المجردة من المهارات العملية، فعليك أن تبعد نفسك بعض الوقت عن القراءة المستمرة، وتفكر فيما قرأته بعين ناقدة، وعندما لا تلوح لك قدرة على نقد ما قرأت تحدث به لعاقل أو فطن، واستمع دون إصرار، وناقش بمقدار وعي مخالفك، وإن لم تجد من تناقش فاقرأ للمخالف. * (18) [ صـ 38] فالتكلف نقص في الكمال. ألم تشهد الرسول صلى الله عليه وسلم يسكت عن عابث في الصلاة ! ولم يزل الناس من عهد آدم يولد فيهم كل لحظة الذكي الزكي، الصادق الأمين، من يسعدك حضوره، ويعلمك كلامه، ويهديك برأيه. إن الصاحب الجيد قد يكون الذي سيأتيك غداً . أو الذي أهملته أمس، أو الذي تراه ولا تعطيه وجها. القرناء يوقد بعضهم في بعض نار الهمة والتنافس، فيصبح لهم أثر وصولة وجولة، ويوم يخفت التنافس يخفت الجهد والمثاقفة، ويضعف مستوى المثقفين، تما ً ما كما يضعف السياسيون بلا منافسة، وفيما قص خالد محمد خالد من طرائف زملائه من أمثال سيد سابق الذي لقبوه بـ"المحيط الهادئ" * (19) [ صـ 39] وهنا يجدر التنويه بخطر هذا الاستبداد، إذ إن الكتب "مألفة" فإذا ألفت منها صنفا تحكم فيك ولم تتحكم فيه. فاحذر سيطرة كاتب أو صنف عليك؛ لأنه يقطعك ويبعدك عما أنت بصدده. ولا بد أن تخرج لغير كاتبك المفضل أو كتبك المفضلة لتشهد الدنيا خارجها، وتسأل عما جد من جديد، أو ارتفع من حكم علمي أو حاكم على غيره. ولتكرار المقروء فائدة أخرى، وهي تقوية الذاكرة والاستفادة منها على الوجه الأكمل، يقول مطهري : "الإنسان الرشيد هو الذي يمكنه الاستفادة الصحيحة من ذاكرته، وأما غير الرشيد فيمكن أن تكون ذاكرته قوية جدا، ولكن لا يمكنه الانتفاع منها واستثمارها، بل يتصور أن الذاكرة مستودع يجب ملؤه بكل شيء. وأما الإنسان الرشيد فيفكر في الأمور التي يملأ بها ذاكرته، ولا ينتقي منها إلا الجيد المفيد، إن ذاكرته مقدسة، ولا يجدر أن يملأها بأي شيء، بل يلاحظ ما يفيد ومقدار فائدته، ويضع قائمة بهذا، ثم ينتخب ما هو أكثر فائدة لذاكرته، ويعتبرها كالأمانة التي يلزمه المحافظة عليها، فيجب أن يتعرف على المسائل العلمية أولا، وبصورة دقيقة وواضحة، ثم بعد ذلك ينقلها لذاكرته" . * (20) [ صـ 47] فإذا أعجبك خلوصك للعلم وللمعرفة، فراقب نفسك بوعي ودعك من غرور الكتب، ومن ترفع المثقفين على الناس، الترفع الذي يكون ظاهرة مرضية أحيانا وليس كما يدعون وقارا ومهابة. فاجلس مع الناس، ودعك من قول شيخ الإسلام : "مجالسة أمثال هؤلاء تفت القلب فتّاً" فقد جالس رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى، والمجوس والمشركين، وبسطاء الناس من الأعراب، وناقشته العجائز، وحاور وناظر ودعا وبايع وشارى، وعاهد وحارب وسافر ولاعب، موقفا لنا على الإنسان في غاية كمال إنسانيته ورجولته. وربى من نسائه من كانت مثالاً لغاية كمال المرأة ومشاركتها الفكرية والسياسية والدعوية، فخديجة وعائشة كانتا غاية في الكمال . * (21) [ صـ 52] من لا يقرأ سوى التفاهات فسوف يعجب بالقريب منها. وقد صاحبت رجالاً أفذا ً ذا غير أنهم درجوا على قراءة الصحف والمجلات، وكتب السياسة والمذكرات السهلة، فأصبحوا يعجبون بأنفسهم غاية العجب؛ لأن كتاباتهم أحسن من كتابة الصحفي فلان من طبقتهم، وأوضح من علان أو أشجع، ولما قيل لهم عن تواضع كتابتهم وأنها لا تحمل جديدا يهم، أنكروا على من قال لهم، وربما رأوا فيه منحرفا عن طريقهم أو مغرو ً را يطلب ما لا يمكن، أو حاسدا لم يجارهم في نفس النسق. * (22) [ صـ 55] أعود فأقول: إن لم يتيسر لك أستاذ، فقرين تطاوله للتفوق والتقدم للفهم ويطاولك، كأغصان الأشجار تتزاحم وتتطاول؛ لتحوز أكبر قدر من الضوء "غذاءها الأعلى،" والفهم والوعي غذاء النجباء، يتسلق بعضهم على أكتاف بعض، فيتقدم رجال ويطولون، أو يشمخون في سماء المعرفة والفهم أكثر من غيرهم، ومن لم ينافسه أحد قَ ّ صر وقل شأنه. * (23) [ صـ 79] القراءة الكثيرة تجعل من صاحبها مجمعا لما يحب وما يكره، وما يعي وما يجاوز وعيه، وخاصة إن أعطاه الله ذاكرة حافظة مجردة من ملكة النقد، فيا سوء حاله! و يا شناعة ما جمعه! إنه ينطق فيؤذي نفسه والناس؛ لأن هذا الخليط يفتقد لنظام عقلي كان يحتاج أن يسهر عليه سنين للترتيب وحذف الكثير من مقروئه، وترتيب مفهومه من أي مكان جاء. ولهذا يأتي التحذير من القراءة الدائمة الباردة دون تفكير في المقروء، عل ً ما أن عددا عظيما من النابهين كانوا مسرفين في القراءة، وقد وهبهم الله عقولاً جبارة، فما كانت القراءة إلا سندا للفهم والنبوغ. * (24) [ صـ 86] ومن هنا نجد أن الكتب قد تكون وسيلة لتجهيل غير مقصود، وهي تريد التعريف، وعقل الإنسان مهما كبر فهو صغير، ويضعف جدا كلما اهتم بالجمع والنقل، فالنقل كما يغنيه ويرفعه فهو يكاد يلغيه أحياناً . * (25) [ صـ 87] ولهذا قالوا: "الأدب في الغربة رفيق، وفي الوحشة أنيس، إنه صاحب تبنيه وتصنعه في لحظات الانفراد بالمعرفة ليكون أنيسا ساعة وحدة ووحشة، ولك معزا لحظة ذلة" وهو نفسه الذي أشار أحدهم له أنه يتكئ عليه يوم لا يجد مستندا ويخور عظمه ويرق، فلا يبقى له من قوة مؤثرة سواه. * (26) [ صـ 102-103] أما كتب الناس فهي بحسب مؤلفها ومتلقيها، فمنها كتاب فوق مستواك وليس لك، وآخر لقبيلك ونظيرك، وثالث دونك. فالذي فوقك لا يخلو من فائدة، ولكن معاناته قد تكون أكثر من فائدته. وما كان قبيلاً لك مثيرا لفكرتك أو ممتعا لعقلك وذوقك فذاك تفيد منه كثي ً را، وهو قادر على نفعك أو الإضرار بك. * (27) [ صـ 104] كثيرا ما تجد الفكرة الرائعة والسياق الحكيم في كتيبات صغيرة، فمثلاً في كتابي (الأدب الصغير) و (الأدب الكبير) إشارات مهمة عن العلم والمعرفة والحكمة والفهم، تجعل الكتاب جوهرة. وخذ هذه اللوحة الجميلة التي خطتها مؤرخة يهودية أمريكية كتبت عددا من الكتب التاريخية العامة والسهلة، تقول: "الكتب حاملات للحضارة، بدون الكتب التاريخ صامت، والآداب غبية، والعلوم معوقة، والتفكير والتوقع جامدان. بدون الكتب يكاد التطور الحضاري ألا يكون، الكتب محركات التغيير، ونوافذ على العالم، ومنارات تضيء بحار الأزمنة، الكتب رفاق، وأساتذة وسحرة، وبنوك لكنوز العقول، الكتب إنسانية مطبوعة" . (28) [ صـ 118] ... يقول جبرا: "إن هذا المعشوق "الكتاب" يحرمك الطعام لبضعة أيام وليال كل مرة، ولكنه يغذيك عقلاً وعاطفة طول عمرك، ويبقى رصيدا لك تعتمد عليه دائما ولا تخيب. وفي بحر سنوات قلائل وجدتني محاطا بكتب اخترتها جميعا بنفسي واحدا واحدا، أنقلها قبل ثيابي أينما ذهبت برضا وحماس، مع إنها أثقل متاع ينقله الإنسان في ترحاله، ولها الحق في أن تكون كذلك، أليست هي التي تحمل خلاصة حكمة الإنسان، وتاريخه وتطلعاته وتباريحه وجوهر كينونته" . * (29) [ صـ 124] وحكمك على كتاب أو مذهب أو شخص من صفحات من كتاب له قد يكون جورا عليه، وبخاصة عندما تكون عادتك المرور السريع. نعم، بعض الكتب يكفي عنوانه لتركه، أو يكفي عنوانه لقراءته، ولكن لا تجعل التسرع سنة في تعلمك؛ لأن التسرع سيفوت عليك معلومات، أو تجانبك لذات معرفية ولغوية لن تنالها إلا بصبر واستقصاء لذيذ النتائج، فتسرعك قد يضعف قدرتك على الفهم. ومن القراء من أغلقوا عقولهم قبل القراءة وأثناءها، فلا يسمعون ولا يرون، ولا يهمهم ماذا في الكتاب، ولا تستوقفهم فكرته، ولا يأبهون بأسلوبه، قد حددوا قبل البدء موقفهم كخصوم أو مستسلمين للنص دون وعي ذاتي، ثم يسمون أنفسهم قراء ومثقفين ومطلعين، ويرون أنفسهم نقاد الفكرة قبل معرفتها! هؤلاء ذرهم على حالهم، ولا تعكر عليهم شهواتهم واستمتاعهم بثقافة الجهل، فهم لن يصلوا لشيء بأنفسهم، وهم -عادة- مستهلكون متحمسون لغيرهم، لأجدادهم أو لأعدائهم. * (30) [ صـ 130] تستطيع أن تعرف القارئ الجاد من طريقة تعامله مع الكتب، وتستطيع أن تمتحن العقل الثقافي للرجل من تقديره للكتب خارج دائرة اهتمامه. فمن نظر لغير فنه ساخ ً را منتقصا، فما انتقص سوى نفسه، ولا حقر إلا عقله، وأنى له أن يطيق اتساع المعارف من قعدت به همته، ورأى العالم بعين صغيرة يحجبها عن الدنيا ورقة أو فكرة، أو شيخ أو حزب أو طائفة. * (31) [ صـ 140] هكذا تجد نقاشات الفلاسفة، كلا طرفي الأمور مبرر ومفلسف، ويرون وراءه حكمة ما. ولا تنسَ أن كل إنسان يرى الإنسان الأكمل في بلده أو من فهره ! * (32) [ صـ 142] فحين يبدأ الكاتب بكتابة السطر الأول، تمتد في عقله خمائل متشابكة عن فكرته، تلك الفكرة التي ربما التقطها عاب ً را من كتاب ما، أو نمت بذرتها أثناء قراءة روتينية. وحين يسأل أي سائل عن طريق الكتابة، يفاجأ بالإجابة الأولى: اقرأ. فقد طلب أحدهم إلى أبي نواس أن يخبره كيف يستطيع أن يكون شاعرا؟ فقال له: "احفظ ثلاثة آلاف بيت ثم انسها، وبعد ذلك جرب الشعر" * (33) [ صـ 143] والجد في الكتابة كالجد في القراءة، ويأتي الخطر على الكتابة من استسهال الكاتب لها، ومن تبسيط مهمته والتعجل في الكتابة، ولهذا كانت الصحافة من خصوم الكتابة الراقية. وقد نصحت كاتبة شهيرة الكاتب المعروف إرنست همنجواي ألا يكتب في الصحف؛ لأن الصحافة سوف تنسيه طريقة الكتابة. فالكتابة السريعة تفطر الفكرة قبل نضجها، وتعاجل الأسلوب بالخروج للناس قبل أن يلبس ثوبه، وقبل اكتمال شكله. وتع ّ ود الكاتب على الكسل عن البحث، فيستسيغ عدم التجويد، فلله هذه الصحافة كم من موهوب قتلته، وكم نفعت أقواما لانتهاكهم أدب الكتابة، فحملتهم لكراسي المال والقرار، وأضرت بآخرين لأنهم أدوا حقها المعنوي والشكلي . * (34) [ صـ 150] معايشة النمرة ! * (35) [ صـ 165 ] كتب جوزيف كونراد في مقدمة كتابه: سجل شخصي، وهو سيرة مختصرة جدا، يقول: "من أراد أن يقنع فلا يجعل ثقته في الحجة، بل يضع ثقته في الكلمة الصحيحة." ذلك أن صياغة الكلمات مؤثرة جدا على الناس، وهذا كاتب محترف كان سيدا للكتابة في زمنه. ويبقى أن للنص المكتوب علوا على الخطابة، فالخطابة عاطفة وصورة وسرعة وإبهار، أقرب أن تكون بهرجا وتظاهرا وضجةً وخدعةً لفظية، أما الكلمة المكتوبة فتصاغ ويعنى بها أكثر، لأن الخطابة من نحاس والكتابة من ذهب. * (36) [ صـ 167 ] إن كنت لا تحب الكتابة فاكتب واكتب و اكتب حتى تحبها، وتصبح لك طريقة مألوفة، محببة للعمل والتعامل مع الكون المحيط، فليس هناك من كاتب مجيد للكتابة إلا وعانى من صعوبة تقويم النص الذي يكتبه، وتعهده بترقيته وإصلاحه، وملاحقته بالتحسين وتجميل الصياغة بعد تصحيح الفكرة. * (37) [ صـ 215 ] ولا تكن كالبخيل الذي خاف على ماله فأخفاه حتى نسي مكانه، فعاش خاسرا ومات متحسرا، ولا تتنكر لبراعتك في شيء؛ لأنك إن تنكرت للموهبة غابت تلك الموهبة. ولأن طريقة إخفاء المقدرة تبدأ اختيارا ثم تنتهي طبيعة، وتبدأ مفيدة ثم تنتهي مضرة، فتقمع ذكاءك وموهبتك باختيارك، ثم تتعود القمع، حتى يكون عادة مقبولة، فيتر ّ فع عليك الغبي، ويهزأ بك الفَ ْ دم، وأنت من فتح له الطريق، فإن لم تكن بارعا ولا ذك ًّ يا، فذكاؤك في ظهورك على حقيقتك، وانسجامك مع طبيعتك. ولكم رثيت للمتعالمين والممثلين والمتظاهرين المتشبعين بما لا يملكون! فلانكشافهم المستمر حسرة لا يطيقونها، أو يستغبيهم الناس بطريقة لا يفهمونها، وقد كانوا غرروا بأنفسهم وبعبقريتهم التي تنقلب غباء . * (38) [ صـ 267 ] وخير قراءاتك تلك التي تنساها وتنسى نصوصها، وأحيانا مواضعها! لماذا؟ لأنك تتخلص من سلطة كتاب أو مفكر عليك، فأنت تتخلص نفسيا وتخلص لتجربتك ومعرفتك، وتتحسس ذوقك ويقينك ومزاجك . * (39) [ صـ 314 ] وكم أنا حريص -وأنت- أن نكبح خيال الأطفال -أطفالنا- ليكونوا مثلنا تماما! * (40) [ صـ 320 ] مساكين من يرون الجلافة رجولة، والقساوة شجاعة، ويرون الصلف مهابة وعزة، إنهم يسدلون الستار على الإنسان، ويكتمون حياته الكبيرة، ويضغطون على مشاعره. ما لهم كيف يصنعون كل هذه المآسي؟ * (41) [ صـ 322 ] فالقراءة متعة وملهاة وعبادة ومنتجع للروح، تتدفق آثارها على الجسم، حبورا وغنى وشعورا بالمكسب العظيم، مع أن القراءة تحمل لصاحبها خسائر كبرى يصرح بها مرة ويسرها كثي ً را؛ ذلك لأننا لا نحب أن نتحدث عن خيباتنا، وبخاصة بعد زمن يحب المرء فيه أن يسجل أمجاده ومكاسبه، ويخفي خسائره. وهل للإنسان من لباس أجمل من لباس التجمل والتظاهر بتحقيق الكثير مما أراده؛ لأنه لا طريق لما لم يمكننا صنعه . ؟! * (42) ومما يعين على الكتابة الجيدة أن تتذكر هذه الكلمات التي تعلمها الصحفي الشاب الذي كان عمره سبعة عشر عاما عندما عمل في جريدة «كنساس سيتي ستار» أو نجم كنساس، إنه إرنست همنجواي كاتب «الشيخ والبحر»، يقول: "كانت الجريدة تدعو إلى اتباع الأسلوب التالي: جمل قصيرة، ومقاطع قصيرة، وأفعال مؤثرة، والصدق، والتكثيف أو التركيز، والوضوح والمباشرة." ثم قال: "إنها أحسن القواعد التي تعلمتها في هذه الصنعة، ولم أنسها أبدا" ورد هذا النص في أماكن عديدة، منها ترجمته في صفحته على الإنترنت: "الفصل الثاني: الحرب العالمية الأولى." وقد كان تطبيقه في نصوصه قريبا جدا من هذه الكتابة التي يصفها .------------------- ( انتهى ) المصدر... |
الساعة الآن 05:43 AM |
Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved.
mamnoa 2.0 By DAHOM