شبكة ربيع الفردوس الاعلى

شبكة ربيع الفردوس الاعلى (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/index.php)
-   تفريغ المحاضرات و الدروس و الخطب ---------- مكتوبة (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/forumdisplay.php?f=350)
-   -   الاستقامة (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/showthread.php?t=266209)

ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران 04-09-2016 06:54 PM

الاستقامة
 
الاستقامة


الشيخ صالح بن عبدالرحمن الأطرم







الحمد لله الهادي إلى صراطه المستقيم، أحمده سبحانه فهو المنعم المتفضِّل بهذا الدين القويم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي قال له ربه سبحانه: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ ﴾ [هود: 112]، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وكل مَن توجَّه إلى الله بقلب سليم.



أما بعد، فأيها الناس، اتقوا الله تعالى الذي خلقكم وصوَّركم فأحسن صورَكم، واتقوا من خلَقكم في أحسن تقويم واستقامة، اتقوا مَن سيُحاسِبكم على ما أسبغ عليكم من نِعَمه، وما أولاكم من سمعٍ وأبصار وأفئدة.



اتقوا الله، وكونوا ممن شكر نِعمَه وهم الأقلُّون؛ قال الله تعالى: ﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13]، اتقوا يومًا أحوج ما يكون فيه أحدنا إلى العمل الصالح الذي يرضى به ربه ويُعتِقه به من النار ويُدخِله الجنة، واعلموا أن من تقواه - سبحانه وتعالى - أن تستقيموا في سيركم وتوجُّهِكم إليه؛ لتقِفوا وتَمتثِلوا بين يديه، وهذه الاستقامة التي أمركم بها هي سلوك الطريق المستقيم، وهذا الطريق الذي جمع هذه الأوصاف هو الدين القويم والصراط المستقيم، الذي أُمِرتم بأن تدعوا ربَّكم بأن يُوفِّقكم لسلوكه في كل ركعة من ركعات صلواتكم، بعد الثناء عليه وتوحيده بأفعالكم، ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 1 - 7]، وهذا الصراط هو الذي بُعِث رسولُنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم ليهدي ويُرشِد إليه، ويَدُل عليه؛ ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52]، فسالِكُوه هم الذين أنعم الله عليهم، وهم الأنبياء والصدِّيقون والشهداء والصالحون، ومن سلَك سبيلَهم كان برفقتهم، ومَن خرج عن طريقهم كان برفقة إخوان الشيطان أصحاب الجحيم؛ ﴿ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ﴾ [الشعراء: 91].



أيها المسلم، إن دعوى الإسلام باللسان، والتنكُّر له بالجوارح والجِنان - غيرُ مُجدٍ في سلوك الصراط المستقيم، فشتان ما بين مَن يسير في الطريق المعبَّد مضطربًا متقلِّبًا يَمنة ويَسرة، وبين من سار فيه باعتدال وانتظام، فذاك قد عرَّض نفسَه للعَطَب والهلاك والخطر والدمار، وهذا مُلتَمِس أسباب النجاة، والفوز بالسعادة في الدنيا والآخرة بالجنات: ﴿ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الملك: 22].



ولما كانت الشهادة باللسان وحده لا تكفي؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾ [فصلت: 30]، بمعنى أنهم ثَبَتُوا على تلك المقالة، واستلزموا مستلزماتِها؛ من اعتقاد بالجِنان، وعمل بالأركان؛ ولهذا قرَن الاستقامة بالأعمال الصالحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال له: قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك! قال: ((قل: آمنتُ بالله، ثم استقم))[1]، وقال تعالى: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [هود: 112]، إن هذه النصوص لَتَكشِفُ لك - أيها المسلم - خطَّ سيرك، وطريق سعادتك؛ فتأمرك بالاستقامة عن الاضطراب، والاعتدال عن الاعوجاج، وتصديق الأقوال بالأفعال بالبُعد عن أهل النفاق والشِّقاق، الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم وما لم تعمل به جوارحُهم؛ ﴿ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ﴾ [الكهف: 5]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2، 3]، فما حال مَن أكذبه ربُّه ومقَت فِعلَه؟ إذ لا منجى ولا ملجأ لك - أيها المسلم - إلا سلوك الصراط السوي، بأن تصدق قولك باعتقادك، ويظهر مكنون صدرك على أعمالك، كما أمرك ربك وأرشدك إليه، وكما علَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا السائلَ حين أجابه صلى الله عليه وسلم بما يشفي ويكفي ويروي غليل الظمآن بقوله: ((قل: آمنتُ بالله، ثم استقم))، فعلَّمه كلامًا جامعًا لأمر الإسلام، كافيًا وحده لا يحتاج معه إلى غيره، فمن قال: ربي الله، وآمنت بالله، وأسلمتُ وجهي لله، فعمِل بما تُوجِبه هذه الكلمة، فهو من أهل الاستقامة، وأما مَن قالها ثم لم يعمل بمقتضاها ومات على ذلك، فهو ممن لم يَستقِم، ولم يعبأ بجزاء المستقيمين، وروي أن عمر رضي الله عنه قرأ هذه الآية: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾ [فصلت: 30]، على المِنبَر فقال: "استقاموا واللهِ لله بطاعته، ولم يَروغوا روغان الثعلب"[2]، فمراد عمر أن الاستقامة أداء الفرائض وتَحقُّق التوحيد الذي يُحرِّم صاحبه على النار، وهذا هو معنى لا إله إلا الله؛ أي: المعبود بحق الذي يُطاع فلا يُعصى؛ خشية وإجلالاً، ومهابة ومحبة وتعظيمًا، ورجاء وتوكلاً ودعاء.



والاستقامة ضدها المعاصي كلها، فإنها قادحة في التوحيد؛ لأنها إجابةٌ لداعي الهوى والشياطين، قال تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ﴾ [الجاثية: 23]، قال العلماء: هو الذي لا يهوى شيئًا إلا ركبه، فهذا ينافي الاستقامةَ على التوحيد وعلى الإيمان.



لا جَرَم لئن كانت الاستقامة مأمورًا بها محمدٌ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، فالخروج عن الصراط المستقيم منهي عنه: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ﴾ [هود: 112]، ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153]، ولئن كانت الاستقامة موصلة إلى الغاية والمقصود، والمرام المحمود، فعدَمها فيه الضياع والهلاك والتردي في المتاهات، ولئن كانت الاستقامة طريق الأنبياء والصالحين، فالطريق المعوج طريق الضالين: ﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ﴾ [ق: 5]؛ أي: مُضطرِب مختلف، ولئن كانت الاستقامة من التائبين والمنيبين إلى ربهم والمحسنين، فالفاسق والكافر مطلوب منهم التوبة أولاً، ثم الاستقامة ثانيًا: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ ﴾ [هود: 112]، ولئن كانت الاستقامة مطلوبة، فتجاوُز الحد منهي عنه: ﴿ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [هود: 112]، ولئن كان السلوك للطريق المستقيم جمعًا للشمل ووَحدة للكلمة، فعدم الاستقامة داعٍ للتفرُّق والاختلاف: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [الشورى: 13].



قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ﴾ [فصلت: 30 32].



أقول قولي هذا وأستغفر الله العليَّ العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.





[1] رواه مسلم (38، 62).




[2] تفسير القرآن العظيم؛ للحافظ ابن كثير رحمه الله.









المصدر...


الساعة الآن 04:09 AM

Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved. منتديات

mamnoa 2.0 By DAHOM