شبكة ربيع الفردوس الاعلى

شبكة ربيع الفردوس الاعلى (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/index.php)
-   الموسوعة الضخمة المتنوعة ------------ رمضان (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/forumdisplay.php?f=298)
-   -   نعيم الطاعة (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/showthread.php?t=222693)

ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران 01-18-2016 09:19 PM

نعيم الطاعة
 
نعيم الطاعة


علي حسن فراج



منذ أيام قليلة خَتَمَ المسلمون مَوسمًا عظيمًا للطاعة، وهو شهر رمضان المبارك، ولستُ بصدد تناولِ فضائل هذه العبادة وآثارها على المسلم من الوِجْهة الشرعيَّة، إنَّما أتيمَّمُ هنا جانبًا آخرَ له أهميَّته في حياة الفرد، بل والمجتمع كله، وهو الأثَر الرُّوحي الذي تركتْه هذه العبادة العظيمة في حياة كلِّ واحدٍ منَّا.

كيف يُمكننا أنْ ننظرَ إلى حال الصائمين والقائمين، وصحَّتهم النفسيَّة وانفعالاتهم؟!
كيف يجدُ كلٌّ منَّا نفسَه في هذه العبادة؟ هل يعاني مما كان يُعاني منه من همومٍ وأحزان ومشكلات، وغير ذلك إلا لِمامًا؟
هل نُقاسي ضغوطًا نفسيَّة كتلك التي كنَّا نقاسيها قبلَ رمضان؟
أين ذهبتْ مشكلاتنا الحياتيَّة الكثيرة، وهمومُنا المتراكِمة؟

لعَمْر الحقِّ، إنَّنا لم نكنْ نشعرُ بها في رمضان، لقد كنَّا عنها في مَعْزِل، ومنها في منأًى.

والسببُ هو حشْدُ نفوسنا للعبادة، وجمْعُ قلوبنا على الطاعة، واتصالنا بربِّنا وخالقنا، وهذا هو سرُّ السعادة ومفتاحها الوحيد على الأرض، وما سواه فهو أوهامٌ أو جُرْعات تخديريَّة لا تُحقِّق السعادة، وإنما تُسكِّن ألَمَ الهموم ووخْزَ الأحزان إلى بُرْهة من الوقت، وتُوحي للمريض أنَّه صحيحٌ معافى، ثم لا يلبثُ أنْ يعاودَه المرضُ والألَمُ.

وما أصدق ما قالَه الإمام الكبير ابن تيميَّة:
"فالقلبُ لا يصلح ولا يفلح ولا يلْتَذُّ، ولا يُسَر ولا يَطيب ولا يَسْكُن ولا يَطْمئن، إلا بعبادة ربِّه وحبِّه والإنابة إليه، ولو حصَلَ له كلُّ ما يلتَذُّ به من المخلوقات لم يطمئنَّ ولم يسكنْ؛ إذ فيه فقرٌ ذاتي إلى ربِّه، ومن حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصلُ له الفرحُ والسرور واللذَّة، والنعمة والسكون والطمأنينة"؛ انتهى.

وصَدَقَ الرجل؛ فإنَّه لا سبيلَ إلى السعادة الحقيقيَّة إلاَّ في أنْ يجمعَ الإنسان قلبَه على خَالقه ويعلِّقه به؛ فإنَّ الله - تعالى - قد أنَاطَ راحة القلبِ وسعادته بإقبال العبد عليه، كما أناطَ الشقاءَ والتعاسة بإعراض العبد عنه؛ قال - تعالى -: ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ﴾ [طه : 123- 124].

من هذه الزاوية يظهر خطأُ كثيرٍ من الناس؛ حيث يظنون أنَّ في الالتزام بالقيود والضوابط الشرعيَّة تضييقًا على النفْس يحولُ بينها وبين تحصيل السعادة والراحة النفسيَّة، التي تَكْمُن في إعطاء النفْس حظوظَها من الشهوات وركوب الهوى، وتحصيل الملذَّات، حتى ليكاد يقول قائلهم: كيف تتصوَّر الحياة السعيدة بلا خمور ورقْص وموسيقا... إلخ؟

ووهِمَ هؤلاء كلَّ الوهْم، وأخطؤوا كلَّ الخطأ؛ فإنَّ الاسترسال مع الشهوات، والانغماس في اللذَّات لهو من أعظم أسباب تعاسة النفوس وشقائها، والتجربة والواقع خيرُ شاهدٍ على ذلك؛ فأكثر الناس معاقَرة للخمور والمخدرات، أو الزنا أو اللواط، ونحوها من المعاصي والمنكرات - هم أكثرُ الناس ضِيق صدرٍ وضَجَرًا بالحياة، وإقبالاً على الانتحار، وفي النهايات الأليمة والمتكرِّرة - لعددٍ غيرِ قليل من مشاهير الفنِّ والغناء والتمثيل - برهانٌ مُبين على أنَّ السعادة ليستْ في مالٍ ولا شُهرة، ولا شهوة، ولا غير ذلك من الأمور التي يظنُّ الكثيرون أنَّ سِرَّ تعاستهم هو عجزُهم عن تحصيلها، وأنَّها لو حصلتْ لهم، لاستقامتْ لهم لذَّةُ الحياة، وغابَ عنهم شَبَحُ التعاسة والشقاء.

ومع الترويج الإعلامي العالمي الكاذب لمفاهيم السعادة والراحة، تروَّجُ هذه النظريَّة الخاطئة الآثِمة في عقول الغالبيَّة العُظمى من الناس، ولا سيَّما الشباب والشابات الذين لم تعركْهم الحياة، ولم تنضجْهم التجارب؛ فتجدهم مُندفعين في اللَّهث وراء تلك الشهوات التي أصبحتْ بالنسبة لهم غاية في حدِّ ذاتها، فلا يستمعون لكلامِ واعظٍ، ولا يلوون على قول ناصحٍ.

ثم إنَّك لو طالبتَ أحدَ أولئك المنهمكين في تحصيل شهواته ونزواته، أو عبثه ومجونه أنْ يصارحَك بحقيقة حاله؛ أسعيدٌ هو أم تعيس بين هذا الصخب الذي يعيشه والملذَّات التي يتناولها؟ وكيف هو عندما يأوِي إلى فراشه؟ أيشعرُ بطمأْنِينة وسعادة أم بضيقٍ وضجرٍ، ويتمنَّى الموتَ، ولا يَخْلد إلى النوم إلا بالمهدِّئات والمسكِّنَات؟

إنه لو صدقَك لأخبرك أنَّه في غاية الهمِّ والكَمد، وأنَّه لا يعرف اللذَّة، ولا يشعر بالسعادة إلاَّ وقت مباشرة الشهوة فحسب، وأمَّا بعدها فلا تسألْ عن تعاسته، والألم الذي يعتصرُ قلبَه، واليأْس الذي ينتابه، والإحباط الذي يستولي عليه.

والسرُّ في عذاب النفْس بالشهوات - بعد دَأبِها لتحصيلها - أنَّ النفْس البشريَّة وإنْ رُكِّبتْ فيها الطبائعُ الحيوانيَّة؛ مِن رغبة في إشباع شهوة بطنٍ وفرْجٍ، إلاَّ أنَّها خُلِقَتْ أيضًا طامحة للعِلم والمعرفة، وحبِّ الكمال والحقِّ والخير؛ بسبب النفْخة المقدَّسة في الطين اللازب.

وأعظمُ علمٍ ومعرفة يُشْفَى غليلُها هي معرفة الخالق - سبحانه - والعِلم به، وبما له من صفات الجلال والجمال والكمال، ثم لا بُدَّ وأن يتبعَ هذه المعرفة وهذا العلم؛ لأنهما إذا حصلا على وجْهيهما تنعم بعبادته ومناجاته، وتتلذَّذ بالانطراح بين يديه، وبثِّ الشكوى إليه، وهذا الإيمان بالله - تعالى.

ولا تكاد تطيب الحياة إلا بمثْل هذا، ولا يُخفف من كدرِ مشكلاتها، ولا يُرفع من كآبة همومِها، ولا تُعالَج مصائبُها وأحزانُها إلا بذلك الإيمان، وبتوجُّه القلب إلى خالقه وصانعه، واشتغال الجوارح بخِدْمته وعبادته، عندها تكون حياة الإنسان تسري في مسارها الصحيح، فتأتي حركتُها في انسيابيَّة ويُسر، فتطيب الحياة وتصفو، ويذوق المؤمن الصادق شيئًا من نعيم الجنة الرُّوحي قبل أنْ يدخلَها.








المصدر...


الساعة الآن 05:53 PM

Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved. منتديات

mamnoa 2.0 By DAHOM